دَمٌ وَ دُخانٌ للكاتب ربيع مبارك
عِنْدَمَا تَوَقَّفَ دَحْمَانُ عِنْدَ مِسْطَبَةِ الْمُعَلِّمِ عَليٍّ ، تَنَاوَلَ قِطْعَةَ الْكَرْشَةِ الْغَلِيظَةِ وَ الشَّحْمَ فِي كَفِّهِ بِرَغْبَةِ زَبُونِهِ وَ سَأَلَ : كَمْ؟ لَكِنَّ دَحْمَانَ لَوَى رَأْسَهُ فِي حَرَكَةٍ مُتْعَبَةٍ وَ مَدَّ وَرَقَةً مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إِلَى الرَّجُلِ وَ هُوَ يَقُولُ : _ كَبِدَ .. غَنَمٍ وَ بَدَا التَّعَجُّبُ عَلَى الْعَمِّ عَلِيٍّ وَ هُوَ يَتَنَاوَلُ الْوَرَقَةَ ، وَ دَحْمَانُ يُرْدِفُ بَعْدَ اسْتِرَاحَةٍ : _ كِيلُو _ بِشَحْمٍ ؟ وَ هَزَّ دَحْمَانُ رَأْسَهُ مُوَافِقاً ثُمَّ تَابَعَ بِصَوْتِهِ الْمُتْعَبِ : شَحْمٌ رَقِيقٌ .. كَانَ بِوُدِّهِ لَوْ مَلَكَ قُدْرَةً عَلَى الْكَلَامِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ. وَ إِذَنْ لَثَرْثَرَ كَثِيراً مَعَ الْعَمِّ عَلِيٍّ ، وَ أَرْضَى تَسَاؤُلَاتِهِ ، لَكِنَّهُ أَخَذَ مَطْلُوبَهُ مَعَ بَاقِي النُّقُودِ وَ انْصَرَفَ . أَحَاطَ بِهِ الْأَطْفَالُ فَتْرَةً فِي الْبَيْتِ ثُمَّ تَرَكُوهُ ، وَ تَحَلَّقُوا حَوْلَ أُمِّهِمْ حِينَ بَدَأَ الْمِجْمَرُ يُرْسِلُ دُخَاناً دَاكِناً لَذِيذاً مُنْعِشاً . وَرَاقَبَ دَحْمَانُ حَرَكَاتِ الزَّوْجَةِ وَ هَرَجَ الْأَطْفَالِ فِي بُرُودٍ ، وَ تَمْتَمَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ نَفْسِهِ فِي بُرُودٍ : إِنَّهُمْ فَرِحُونَ إِنَّهَا تَتَلَمَّظُ ... تَتَوَحَّمُ . تَصَاعَدَ الدُّخَانُ ، فِي الْبَيْتِ حَتَّى امْتَنَعَتِ الرُّؤْيَةُ ، وَ اتَّكَأَ دَحْمَانُ عَلَى الْحَائِطِ وَ دَبِيبُ النَّمْلِ يَسْرِي فِي ذِرَاعِهِ وَ يَشْتَدُّ ، حَتَّى يُصْبِحُ خَدَراً يَعُمُّ نِصْفَ الْجِسْمِ ، وَ يَشْعُرَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْحَرَكَةِ ، أَوْ عَنْ إِرَادَةِ الْحَرَكَةِ ، وَ لِمَ يَتَحَرَّكُ ؟ إِنَّهُ لَا يَرَى وَلَا يَنَامُ وَ لَا يَرْفُضُ . لَمْ يَكُنْ خَدَرُ الذِّرَاعِ يَخْلُو مِنْ لَذَّةٍ كَلَذَّةِ الْيَوْمِ عِنْدَ جَلْسَتِهِ تِلْكَ، عَلَى أَرِيكَةٍ فَخْمَةٍ مُطَاوِعَةٍ أَحَسَّ أَثْنَاءَهَا كَأَنَّهُ يَطِيرُ أَوْ كَأَنَ جِسْمَهُ فَقَدَ وَزْنَهُ. كَانَ ذَلِكَ عِنْدَمَا فُتِحَ الْبَابُ وَ أَطَلَّ الْمُمَرِّضُ ، فَتَقَدَّمَ دَحْمَانُ ، وَ يَدُ رَجُلٍ مُجَلْبَبٍ بَشُوشٍ خَلْفَهُ تَرْبُتُ عَلَى كَتِفَيْهِ ، وَصَوْتٌ يَهْمِسُ لَهُ مِنْ وَرَائِهِ : _ الْكَلْمَة هِيَ الرَّجَلْ! لَمْ يَلْتَفِتْ دَحْمَانُ وَ إِنَّمَا تَبِعَ الْمُمَرِّضَ نَحْوَ غُرْفَةٍ مُعَقَّدَةِ التَّرْكِيبِ ، وَ إِذَا هُوَ أَمَامَ طَبِيبٍ شَابٍّ تَدَلَّتِ السَّمَّاعَةُ عَلَى صَدْرِهِ ، سَأَلَهُ : وَرَقَةُ الدَّمِ ؟ وَ أَخْرَجَهَا دَحْمَانُ مِنْ جَيْبِهِ ، اتَّسَخَتْ لِطُولِ الْعَهْدِ وَ لِلْإِهْمَالِ ، وَ رُبَّمَا لِكَثْرَةِ مَا أَخْرَجَهَا دَحْمَانُ مُنْذُ سِنِينَ ... مَنْ يَدْرِي مَاذَا كَانَ يُخَالِجُ دَحْمَانَ كُلَّمَا تَفَرَّسَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ ؟ كُلَّمَا أَحَسَّ بِهَا مَعَهُ ؟ مُنْذُ سَنَوَاتٍ. مُنْذُ الْأَيَّامِ الْأُولَى لِعَلَاقَتِهِ بِهَذِهِ الْوَرَقَةِ، كَانَ يَشْعُرُ بِاعْتِزَازٍ ثُمَّ فَقَدَ هَذَا الشُّعُورَ شَيْئاً فَشَيْئاً، كَمَا يَفْقِدُ كُلُّ جَدِيدٍ رُوَاءَهُ... لَكِنَّهُ ظَلَّ يُفَاجِئُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ الْحِينِ وَ الْحِينِ مُتَأَمِّلاً خُطُوطَهَا الْغَامِضَةَ الَّتِي تُوحِي إِلَيْهِ بِالْكَثِيرِ الْغَامِضِ .. وَ سَأَلَهُ الطَّبِيبُ : _ لَمْ تُعْطِ دَماً مُنْذُ مُدَّةٍ . وَ بِحَشْرَجَةِ صَوْتٍ غَيْرِ مُطَاوِعٍ أَجَابَ دَحْمَانُ : _ مُنْذُ أَكَادِيرَ .. كَانَتِ الْمَرَّة الْوَحِيدَة . وَ قَلَّبَ الطَّبِيبُ الْوَرَقَةَ مُحَاوِلاً أَنْ يَكْتَشِفَ شَيْئاً عَلَى ظَهْرِهَا ، كَأَنَّ مَا عَلَى وَجْهِهَا غَيْرُ مُقْنِعٍ ، وَ عَادَ يَسْأَلُ : عَلَاقَتُكَ بِالْمَرِيضَةِ؟ _ أُمِّي وَ زَمَّ شَفَتَيْهِ حَتَّى لَا تَتَمَرَّدَا فَتُضِيفَا شَيْئاً . _ أَكَلْتَ شَيْئاً مُنْذُ الصَّبَاحِ ؟ تَنَاوَلَ خُبْزاً وَ شَاياً وَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْذِبَ ، وَ أَلَّا يُظْهِرَ الْكَذِبَ ، وَ عَمَدَ إِلَى جَوَابٍ فِي أَنَاةٍ : _ صَائِمٌ يَا سَيِّدِي ... تَمْتَمَ الطَّبِيبُ مُوَافِقاً وَ قَادَ الرَّجُلَ إِلَى أَرِيكَةٍ فَخْمَةٍ ، أَحَسَّ دَحْمَانُ أَنَّهُ يَطِيرُ ، أَوْ أَنَّ جِسْمَهُ يَفْقِدُ ثِقْلَهُ وَ هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهَا لِطَرَاوَتِهَا ... وَ أَحَسَّ كَأَنَّ نَوْماً يُرَاوِدُهُ، وَ الطَّبِيبُ يَعْدِلُ مِنْ جِلْسَتِهِ فِي هُدُوءٍ وَ لُطْفٍ. ثُمَّ سَرَتْ فِي ذِرَاعِهِ بُرُدَةُ الْكُحُولِ وَانْغَرَزَتْ شَوْكَةٌ ، وَ صَوْتُ الطَّبِيبِ يَأْمُرُهُ بِلُطْفٍ : _ اُنْظُرْ إِلَى الْحَائِطِ . وَ لَمْ تَمْتَنِعِ الرُّؤْيَةُ عَلَى الْحَائِطِ فَقَطَرَاتُ الدَّمِ تَتَسَاقَطُ فِي الزُّجَاجَةِ دَاكِنَةً مَعَ نَبَضَاتِهِ ، كَأَنَّهُ يُحَدِّقُ فِيهَا . _ أَغْمِضْ عَيْنَيْكَ . وَ فِي الْإِغْمَاضِ أَيْضاً لَمْ تَمْتَنِعِ الرُّؤْيَةُ ، فَفَضَّلَ دَحْمَانُ أَنْ يُحَدِّقَ فِي كُلِّ شَيءٍ ، وَ كَأَنَّمَا يَئِسَ الطَّبِيبُ مِنْ أَوَامِرِهِ فَتَرَكَهُ وَ شَأْنَهُ . وَ الْبُقْعَةُ الدَّاكِنَةُ تَتَرَاكَمُ فِي قَعْرِ الزُّجَاجَةِ ، وَ يَدٌ لَطِيفَةٌ مُدَرَّبَةٌ تَرْفَعُ الزُّجَاجَةَ وَ تُحَرِّكُهَا بَيْنَ الْحِينِ وَ الْحِينِ ، وَبَعْدَ دَهْرٍ ، نَزَعَتِ الشَّوْكَةُ ، وَ حَلَّتْ مَحَلَّهَا لَزْقَةٌ . وَ قَامَ دَحْمَانُ وَ عَيْنَاهُ تَتْبَعَانِ الزُّجَاجَةَ فِي طَرِيقِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ ... وَظَلَّ يَسِيرُ مُلْتَفِتاً حَتَّى كَادَ يَصْطَدِمُ بِالْمُمَرِّضِ وَ مَا يَحْمِلُ : _ قَهْوَة ؟ وَ رَشَفَ دَحْمَانُ ، كَانَتْ مُنْعِشَةً ، وَ خَرَجَ . تَلَقَّفَتْهُ عِنْدَ الْبَابِ يَدُ رَجُلٍ مُجَلْبَبٍ بَشُوشٍ تَرْبُتُ عَلَى كَتِفَيْهِ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ الْمَرِيضَةِ ، وَ عَلَى بُعْدِ أَمْتَارٍ مِنَ الْمُسْتَشْفَى حَدَّقَ دَحْمَانُ فِي وَرَقَةِ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَ الْوَجْهُ الْبَشُوشُ يُرَدِّدُ: _ الْكَلْمَة ... الْكَلْمَة ! حَاوَلَ دَحْمَانُ أَنْ يَصْرُخَ مُحْتَجاً لَكِنَّ صَوْتَهُ صَدَرَ خَافِتاً وَاهِناً : _ قُلْنَا خَمْسِينَ . _ قُلْنَا عَشرَة . _ الْكَلْمَة هِيَ الرَّجَلْ _ الْكَلْمَة عَشرَة وَ الْتَفَ النَّاسُ حَوْلَهُمْ . كَانَ صَوْتُ الْخَصْمِ أَقْوَى وَ أَوْضَحَ: _ عَشرَة... عَشرَة يَا نَاسْ ! وَ صَوتٌ أَكْثَرُ قُوَّةً وَ وُضُوحاً : _ يَبِيعُ حَيَاتَهُ بِعَشَرَةٍ !؟ وَ أَحَسَّ دَحْمَانُ بِأَنَّهُ يُثِيرُ الاِشْمِئْزَازَ ، وَ أَنَّ الْجَمْعَ ضِدُّهُ وَ أَنَّهُ ضِدُّ نَفْسِهِ ... مُذْنِبٌ وَ ظَالِمٌ وَ خَسِيسٌ هُوَ، صَوْتُهُ لَا يُطَاوِعُهُ، وَ هُوَ مُتَأَكِّدٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ نَتِيجَةَ مَرَضٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ أَنَّ صَوْتَهُ يَتَمَرَّدُ عَلَيْهِ... فَلْيُفَكِّرْ فِي طَرِيقَةٍ لِلْاحْتِجَاجِ يُنْقِذُ بِهَا مَوْقِفَهُ مَادَامَ صَوْتُهُ يَتَمَرَّدُ. وَ لْتُطِعْهُ الْيَدَانِ ، وَ خَطَفَ وَرَقَةَ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيُقَطِّعَهَا ، لَكِنَّ يَداً أَدْرَكَتْهُ ، كَانَتْ حَرَكَتُهُ فِي التَّقْطِيعِ كَاذِبَةً زَائِفَةً ، لِذَلِكَ أَحَسَّ بِاِمْتِنَانٍ نَحْوَ الْيَدِ الَّتِي أَنْقَذَتِ الْوَرَقَةَ وَ اخْتَلَطَتْ أَمَامَهُ الْوُجُوهُ وَ الْأَصْوَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَانْفَلَتَ يَتَحَسَّسُ الْوَرَقَةَ الَّتِي تُخَشْخِشُ فِي يَدِهِ ... أَخْرَجَتْهُ زَوْجَتُهُ مِنْ تَأَمُّلَاتِهِ بِحَرَكَةٍ عَلَى كَتِفِهِ وَ بِصَوْتٍ : _ نِمْتَ يَا دَحْمَانُ ؟ بَلْ كَانَ يَجْتَرُّ يَوْمَهُ وَ تَمَلْمَلَ ، وَ عَادَتْ تَقُولُ : _ خُذْ . وَ تَنَاوَلَ مِنْهَا السَّفُّودَ الْمَعْدِنِيَّ بَعْدَ أَنْ أَخْطَأَهُ مِرَاراً لِتَكَاثُفِ الدُّخَانِ أَوْ بِفِعْلِ خَدَرِ الذِّرَاعِ. وَ بَدَتْ لَهُ قِطَعُ الْكَبِدِ الْمَلْفُوفِ بِالشَّحْمِ ، الْمُتَرَاصَّةِ فِي السَّفُّودِ ، مُجَرَّدَ بُقَعٍ دُخَانِيَّةٍ أَشَدَّ كَثَافَةً . وَ لَاكَ إِحْدَاهَا . حَرَّكَهَا فِي شِدْقَيْهِ ، وَ لُزُوجَتُهَا تَمْتَنِعُ فِي الْمَضْغِ ، فَأَعَادَ تَحْرِيكَهَا مِنْ شِدْقٍ إِلَى شِدْقٍ ، وَ قَدْ طَغَتْ عَلَى ذِهْنِهِ صُورَةُ يَدٍ نَاعِمَةٍ مُدَرَّبَةٍ تُحَرِّكُ زُجَاجَةً فِي قَعْرِهَا بُقْعَةٌ دَاكِنَةٌ تَتَزَايَدُ . مبارك ربيع، دم ودخان، مكتبة المعارف، الرباط، 1980، ص. 5 -11
|
خطوات الإنجاز
I.مقدمة :
1) تأطير القصة القصيرة تاريخيا ( ظروف النشأة و التطور ) ، و فنيا (الخصائص الفنية مثل تكثيف اللحظة الزمنية ، و وحدة الانطباع ، اعتماد اللغة الشعرية ، و الاهتمام بقضايا الفرد و الفئات الاجتماعية الهشة و الدنيا )
2) ضرب مثال ببعض أبرز كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي ( زكريا تامر ، يوسف إدريس ، خناثة بنونة ، عبدالمجيد بنجلون ، أحمد بوزفور ...)
3) تعريف موجز بصاحب/ة النص( إسهاماته/ها الإبداعية و النقدية في مجال الأدب مثلا ، و بعض عناوين مجاميعه/ها القصصية )
4) طرح أسئلة مناسبة لما سيأتي في العرض و الخاتمة
II.العرض :
1) تلخيص المتن الحكائي للقصة بالتركيز على الأحداث الرئيسية
2) جرد القوى الفاعلة و تصنيفها ( شخصيات ، أفكار
، جمادات ،
مواقف و مشاعر ) و الكشف وظيفتها في نمو أحداث القصة
3) إبراز بنية الزمان و المكان و تبيان وظيفتها في نمو الأحداث و تطورها
4) الكشف عن أساليب السرد بتحديد وضعية السارد وتوضيح طبيعة الحوار و اللغة ثم استنتاج وظائف هذه العناصر داخل القصة
5) تبيان طبيعة الحبكة التي تترابط وفقها أحداث القصة و تسلسل ، وذلك بتحديد وضعيات الخطاطة السردية في القصة (وضعية البداية ، وضعية الوسط ، و وضعية النهاية) مع استنتاج وظيفتها الإقناعية و الجمالية بعد المقارنة بين طبيعة وضعية البداية و وضعية النهاية .
III.الخاتمة :
1) تركيب نتائج التحليل بالتركيزعلى موضوع القصة و تحديد الاتجاه الذي تنتمي إليه مع الكشف عن مقصدية الكاتب من سرد أحداثها
2) تمحيص فرضية القراءة ، وإبراز مدى نجاح الكاتب في استحضار مقومات القصة القصيرة مضمونيا و فنيا
3) تقويم النص بالنقاش المبني على تبرير قبول بعض عناصر القصة الفنية والمضمونية أو رفضها .
المنجز [ مثال تطبيق خطوات الإنجاز أعلاه]
مثال مقدمة الإنشاء الأدبي
القصة القصيرة فن سردي مُسْتَنْبَتٌ في الأدب العربي الحديث ، و وليد الترجمة و الانفتاح الثقافي على الأدب الغربي . و قد تلقى القارئ العربي هذا الفن السردي ، خلال ثلاثينات القرن العشرين ، منشورا في الجرائد إلى جنب الخبر . و تجدر الإشارة إلى أن القصة القصيرة تتسم بخصائص فنية أبرزها كثافة المحتوى و التركيز على اللحظة المنفلتة [ الومضة]، فضلا عن وحدة الانطباع و اللغة الشعرية. و من كتابها في العالم العربي نجد زكريا تامر ، محمود تيمور ، و يوسف إدريس بالمشرق ، و عبدالمجيد بنجلون ، ابراهيم بوعلو ، و أحمد بوزفور بالمغرب . وينضاف إلى كتاب القصة المغاربة الكاتب ربيع مبارك ، الذي له في السرد أعمال بارزة مثل روايات : رفقة السلاح والقمر ، الطيبون ، الريح الشتوية ، و المجموعة القصصية دم و دخان مصدر نصنا القصصي . فما أحداث هذه القصة ؟ و ما القوى الفاعلة التي حرَّكتها ؟ و إلى أي اتجاه قصصي تنتمي ؟
مثال بناء فرضية مناسبة لقراءة النص
استعانة بالعنوان الذي يوحي بتشويه اسم علم شخصية دحمان الذي يقابل الجزار في مستهل النص القصصي، نفترض أن القصة القصيرة تروي أحداث حياة مأساوية ( كما يرمز إلى ذلك الدم ) تعيشها شخصية دحمان في تدبير قوت يومها ( و هذا ما ترمز له حالة التعب التي عليها شخصية دحمان أمام الجزار العم علي ).
مثال عرض الإنشاء الأدبي
أ)تلخيص المتن الحكائي ( مثال فقط)
تروي القصة القصيرة أحداث يوم عاشه دحمان في المستشفى . حيث أنه بعدما اشترى الكبد و الشحم من الجزار العم علي بعشر دراهم عاد إلى منزله ليبث الفرح و اللذة بين أطفاله و أمهم .ثم شرع وسط دخان الشواء الذي عتم الرؤية ، و تحت و طأة خذر شوكة الطبيب ، في استرجاع و تذكر ما عاشه من تلاعب وتحايل انطلى عليه أثناء بيعه دمه ، إذ قاده الكذب على الطبيب إلى أن يُكذب عليه من قبل عائلة امرأة مريضة تشتري منه دمه بخمس الثمن المتفق عليه مسبقا ، و حينما احتج قوبل احتجاجه بالسخرية منه بداعي أنه يبيع حياته بعشرة دراهم . و كل هذا دفعه إلى الغضب و محاولة تمزيق الورقة النقدية لولا تدخل يد أوقفته عن ذلك . و هو في خضم استيهاماته فوق الأريكة مسترجعا ما حدث مؤنبا ضميره ، حيث هاجمه الشعور بالذنب و الدونية ، تتدخل يد من الواقع لتنتشل دحمان من هذا الخضم . إنها يد زوجته تحرك كتفه لتقدم له سفود شواء . و إن كان قد عاد إلى واقع المنزل فوق الأريكة ، فإن صورة دمه يسيل قطرات في الزجاجة جعلته مرتبطا ذهنيا بما جرى له في المستشفى من تلاعب و احتيال و سخرية ، و هو الاسترجاع الذي جعل طعم الشواء غير مستساغ و لا قابل المضغ ، كما يطلعنا السارد في نهاية النص .
ب) جرد القوى الفاعلة و تصنيفها( شخصيات،أفكار، جمادات ، مواقف ومشاعر )،ثم الكشف عن وظائفها في نمو أحداث القصة(مثال فقط )
أسهمت قوى فاعلة عديدة في تحريك الفعل بقصة دم و دخان منها : المشاعر ( الحنان و العطف على الأبناء) ، و ( الشعور بالذنب ) ، و منها المواقف ( محاكمة دحمان ذاته ) ، و تبقى أبرزها القُوى الآدمية : مثل الجزار ، و الطبيب ، الرجل المجلبب ، و الممرضة ، و نقر أن هذه الشخصيات كلها ثانوية ، في حين تلعب شخصية دحمان الدور الرئيسي في تنمية أحداث النص القصصي ، و تتسم هذه الشخصية الرئيسية اجتماعيا بتحمل مسؤولية تدبير عيش أسرة تتكون من الزوجة و الأطفال ، و هو ما تعجز عن فعله بشكل مشروع بسبب الفقر . هذه الآفة الاجتماعية التي تجعل من شخصية دحمان شخصية يطغى عليها نفسيا القلق و الخوف ، فتغذو محتالة ، مهانة ، و كذابة ، و تقبل المتاجرة بجسدها / دمها .
تأسيسا على ما سبق نستنتج أن دحمان في قصة دم و دخان يجسد شخصية الإنسان الفقير الذي يفقد كرامته من خلال بيع جسده / دمه ، و بالتالي يكرس في محيطه الخارجي قيم الاحتيال و المكر و الكذب ، في الوقت الذي يتشبت فيه بقيم الوفاء و تحمل المسؤولية في إعالة أفراد أسرته دون التخلي عنهم مهما كان الثمن . و الحال هذا تصبح شخصية دحمان شخصية حربائية تتلون بتنوع العلاقات مع الذات و الآخرين . إن دحمان حنون و مسؤول تجاه أفراد أسرته ، بالمقابل نجده قاسيا على نفسه ، و محتالا على الآخرين و كذابا ( في علاقته بالطبيب ) ، ومفاوضا خاسرا في بيع دمه ( في علاقته مع الرجل المجلبب ) .
ج)إبراز بنيةالزمان والمكان و تبيان وظيفتهما في نمو الأحداث وتطورها
نميز ، في زمان الأحداث ، بين زمان خارجي يكون طبيعيا أو كرونولوجيا ، و بين زمان داخلي نفسي. يشمل الزمان الأول في قصة دم و دخان الأحداث التي جرت بين دحمان و الجزار ، و بين دحمان و أسرته ، بينما يغدو الزمان وعاءً لما استرجعه دحمان من أحداث جرت في المستشفى من قبل . و يلاحظ أن الزمان المهيمن في القصة هو الزمان النفسي ، و ذلك استجابة لمنطق السرد في القصة القصيرة الذي يقتضي تكثيف الأحداث و القبض على المنفلت من قبضة الزمان الطبيعي ، حيث خرق دحمان هذا الأخير باعتباره زمان الأسرة / البيت ، و حلق في شبه حلم للقبض على ما تعرض له من كذب و إهانة في زمان المستشفى . و هو الخرق الذي انعكس على مكان الأحداث ، حيث تحول البيت من مكان للطمأنينة و السكينة بحضور أفراد الأسرة بالنسبة لشخصية دحمان إلى مكان للعزلة المقلقة مع الانطواء على الذات و تأنيب الضمير . كما غدا المستشفى لدحمان مكانا للراحة و جني المال عن طريق الاحتيال ، و كذلك لإنهاك الدورة الدموية ، في حين أنه مكان للتطبيب و المعاناة تحت وطأة المرض ، كما هو مألوف لدى الناس . و هذا القلب لدلالات الزمان و المكان و وظائفهما يعكس الواقع المختل الذي يعيشه الإنسان و هو يرزح تحت نيرالفقر دون بحثه عن سبل و حلول مشروعة و مقبولة للتخلص من قبضة هذه الآفة الاجتماعية ، حيث يكتفى دحمان أمام فقره بالكذب و الاحتيال على الطبيب دون اللجوء إلى العمل أو الكسب المشروع ، مما حوَّله إلى ضحية سهلة تقع في شباك الوصوليين بسهولة ( الرجل المجلبب ).
د)الكشف عن أساليب السرد بتحديد وضعية السارد وتوضيح طبيعة الحوار واللغة ثم استنتاج وظائف هذه العناصر داخل القصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق