اَلْبِئْرُ الْمَهْجُورَةُ للشاعر يوسف الخال
1) عَرَفْتُ إِبْرَاهِيمَ، جَارِيَ الْعَزِيزَ، مِن |
26) وَ الْوَلَدُ الْعَقُوقُ، وَ الْخَرُوفُ ؟ وَ الْخَاطِئُ |
2) زَمَانٍ، عَرَفْتُهُ بِئْراً يَفِيضُ مَاؤُهَا، |
27) الأصيبَ بِالْعَمَى |
3) وَ سَائِرُ الْبَشَرْ |
28) لِيُبْصِرَ الطَّرِيقَا ؟ " |
4) تَمُرُّ لاَ تَشْرَبُ مِنْهَا، لَا وَ لَا |
29) وَ حِينَ صَوَّبَ الْعَدُوُّ مِدْفَعَ الرَّدَى |
5) تَرْمِي بِهَا ، تَرْمِي بِهَا حَجَرْ . |
30) وَ انْدَفَعَ الْجُنُودُ تَحْتَ وَابِلٍ |
6) " لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَنْشُرَ الْجَبِينَ |
31) مِنَ الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى، |
7) فِي سَارِيَةِ الضِّياءِ مِنْ جَدِيدْ " ، |
32) صِيحَ بِهِمْ : " تَقَهْقَرُوا . تَقَهْقَرُوا . |
8) يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ فِي وُرَيقَةٍ مَخْضُوبَةٍ |
33) فِي الْمَلْجَإِ الْوَرَاء مَأْمَنٌ مِنَ |
9) بِدَمِهِ الطَّلِيلِ ، " تُرَى ، يُحَوِّلُ |
34) الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى . " |
10) الْغَدِيرُ سَيْرَهُ كَأَنْ تُبَرْعِمَ الْغُصُونُ |
35) لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ ظَلَّ سَائِراً ، |
11) فِي الْخَرِيفِ أَوْ يَنْعَقِدَ الثَّمَرْ ، |
36) إِلَى الْأَمَامِ سَائِراً ، |
12) وَ يَطْلُعَ النَّبَاتُ فِي الْحَجَرْ ؟ " |
37) وَ صَدْرُهُ الصَّغِيرُ يَمْلَأُ الْمَدَى. |
13) " لَوْ كَانَ لِي ، |
38) " تَقَهْقَرُوا. تَقَهْقَرُوا . |
14) لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَمُوتَ أَنْ أَعِيشَ |
39) فِي الْمَلْجَإِ الْوَرَاءِ مَأْمَنٌ مِنَ |
15) مِنْ جَدِيد، أَتَبْسُطُ السَّمَاءُ وَجْهَهَا |
40) الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى ! " |
16) فَلَا تُمَزِّقُ الْعُقْبَانُ فِي الْفَلَاةِ |
41) لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ ظَلَّ سَائِراً |
17) قَوَافِلَ الضَّحَايَا ؟ أَتَضْحَكُ الْمَعَامِلُ |
42) كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّدَى. |
18) الدُّخَانَ ؟ أَتَسْكُتُ الضَّوْضَاءُ فِي الْحُقُولِ ، |
43) وَ قِيلَ إِنَّهُ الْجُنُونُ . |
19) فِي الشَّارِعِ الْكَبِيرِ ؟ أَيَأْكُلُ الْفَقِيرُ خُبْزَ |
44) لَعَلَّهُ الْجُنُونُ . |
20) يَوْمِهِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ ، |
45) لَكِنِّي عَرَفْتُ جَارِيَ الْعَزِيزَ مِنْ زَمَانٍ، |
21) بِعَرَقِ الْجَبِينِ لَا بِدَمْعَةِ الذَّلِيلِ ؟ " |
46) مِنْ زَمَنِ الصِّغَرْ، |
22) " لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَنْشُرَ الْجَبِينَ |
47) عَرَفْتُهُ بِئْراً يَفِيضُ مَاؤُهَا، |
23) فِي سَارِيَةِ الضِّياءِ، |
48) وَ سَائِرُ الْبَشَرْ |
24) لَوْ كَانَ لِي الْبَقَاءُ، |
49) تَمُرُّ لَا تَشْرَبُ مِنْهَا، لَا وَ لَا |
25) تُرَى يَعُودُ يولسيسُ ؟ |
50) تَرْمِي بِهَا، تَرْمِي بِهَا حَجَرْ. |
يوسف الخال، البئرُ المهجورةُ، دار مجلة شِعْر، بيروت، 1958، ص. 36 و ما يليها . |
|
يوسف الخال ( 1917~1978 ) شاعر لبناني سوري من مبدعي قصيدة الرؤيا ، اشتغل بالصحافة ، و مارس النقد الأدبي ، كما أسس مجلة شعر بمعية الشاعر أدونيس . من أعماله الشعرية : الحرية ، و البئر المهجورة . |
الخطوة الأولى
بناء إشكالية الموضوع انطلاقا من تأطير خطاب تجديد الرؤيا الشعري و إبراز خصائصه الفنية و الاستدلال بأبرز شعرائه ، ثم تقديم تعريف موجز لصاحب النص ، و طرح أسئلة مناسبة لما سيأتي في عرض وخاتمة الموضوع الإنشائي .
مثال تطبيقي
إذا كان خطاب تكسير البنية قد تجاوز الشكل التقليدي إيقاعيا ، فإن خطاب تجديد الرؤيا امتداد لهذا التجاوز في الشعر الحديث ، إذ تخلى عن استخدام الصورة الشعرية البيانية ، المتجسدة في التشبيهات و الاستعارات والمجازات والكنايات ، و جعل من الصورة -الرمز إحدى دعامات الشكل الجديد المناسب لمضمون جديد قائم على تداخل الواقع والحلم والخيال والحدس مع استشراف مصير الإنسان في علاقته بذاته و محيطه . و من الشعراء الرؤيويين الذين جعلوا من مضامين القصيدة الحديثة معرفة حدسية حلمية تنبؤية نذكر، على سبيل المثال لا الحصر ، الشاعر العراقي سعدي يوسف ، والشاعر الفلسطيني محمود درويش ، و الشعراء المغاربة ، كل من أحمد المجاطي ، محمد السرغيني ، و محمد بنيس ،والشاعر السوري أدونيس ، ثم رفيقه في تأسيس تجربة مجلة شعر ، صاحب النص ، الشاعر اللبناني يوسف الخال ، الناقد و المثقف والصحفي الذي أولى أهمية كبرى لتحرير الثقافة و جعلها سبيلا إلى التخلص من التبعية ، كما دعا إلى البحث من أجل إبداع شعر جديد من حيث المضمون ، و من حيث الشكل ، جدة تصل إلى إبداع اللامألوف من الأشكال التي تناسب المضامين الخلاقة و التوليدية . و من أعماله النثرية : دفاتر الأيام ، ومن أبرز أعماله الشعرية ، نجد ديوان الحرية ، وديوان البئر المهجورة ، الذي اقتطفت منه هذه القصيدة . فما رؤيا الشاعر التي يتضمنها هذا النص ؟ وما الرموز التي استند إليها الشاعر في تجسيد رؤياه ؟ و هل نجح في استحضار مميزات قصيدة الرؤيا المضمونية وخصائصها الفنية ؟
الخطوة الثانية
بناء فرضية مناسبة لقراءة النص ، و ذلك استعانة بعتبات النص و بعض المؤشرات الدالة منه.
مثال تطبيقي
يشير العنوان إلى كسر المألوف بين الموصوف ( البئر ) و الصفة المسندة له ( المهجورة ) ، إذ من المعتاد ارتباط الإنسان بالبئر بما هي مصدر الماء / الحياة ، لا هجرها . و هذا التجاوز للمألوف يتجلى بوضوح أكثر في السطرين الأول و الثاني ، لما نكتشف أن هذه البئر هي جار الشاعر ، المسمى إبراهيم الذي لا يخاف الموت و يتقدم نحوه بشجاعة (كما في الأسطر الشعرية الخامسة والثلاثين ، و السادسة و الثلاثين ، و السابعة و الثلاثين .) . و عليه يمكن اقتراح فرضية أن القصيدة تجسد رؤيا المأساة والتحدي إلى حد خرق المألوف فداء لبني الإنسان.
الخطوة الثالثة
تكثيف مضامين النص في فقرة منسجمة بعد قراءته قراءة فاحصة و متأنية .
مثال تطبيقي
تنقسم القصيدة إلى أربعة مقاطع شعرية محددة طِبَاعِيا بِوُجُودِ بَيَاضَاتٍ فَاصِلةٍ بينها . فقد بدأ الشاعر في تجسيد رؤياه باللجوء إلى صيغة السرد بصوتين ، صوت الشاعر ، و هو السارد الشاهد على إبراهيم الجار العزيز ، الشخصية الغريبة . و صوت إبراهيم ، هذا الأخير الذي سطر أمنيته الأولى المستحيلة بدمه في وريقة . ليتفرد المقطع الشعري الثاني بصوت إبراهيم الذي يَسْبَحُ في عوالم الممكن ، فيتمنى الموت و الانبعاث من جديد من أجل إيقاف آلة الموت التي تنشر المآسي بين الناس ، و ضمانا لعيش الفقير بكرامة . و يواصل إبراهيم في المقطع الشعري الثالث أمانيه ، فيتمنى الخلود رغبة في عودة كل مخطئ في حق الإنسانية إلى صوابه و يعلن تطهره من كل ما سبق أن ارتكبه من أخطاء. و يتوقف التمني الذي يجري في عالم الإمكان بصوت إبراهيم ، ويعود صوت الشاعر ، السارد / الشاهد ، إلى الواقع ، حيث يتدخل صوت ثالث : صوت الرصاص المحذر والمنذر بالمأساة ، فيخبرنا الشاعر / الشاهد بصمود أبراهيم و مواجهته للمصير المأساوي : الموت بشجاعة خارقة . ثم ينقل الشاعر في المقطع الرابع و الأخير شهادات مجهولة المصدر تنعت إبراهيم ، لما يتميز به من شجاعة غير مألوفة في مواجهة المصير ، بالجنون . غير أن الشاعر يعاود تقديم شهادته التي تنزه إبراهيم عن هذه الشهادات المجهولة الجائرة ، و ينعته بالإنسان الخارق وذلك تجسيدا لرؤياه المتشبعة بتحدي الإنسان للمأساة بكل شجاعة و تضحيته من أجل حياة الناس الكريمة .
الخطوة الرابعة
تحليل النص من أجل تحديد معجمه و إبراز مكوناته الإيقاعية و الرمزية و الأسلوبية ، وبيان دلالات كل ذلك في النص .
مثال تطبيقي
استند الشاعر في التعبير عن رؤياه معجميا إلى حقلين دلاليين ، الأول دال على الواقعي المألوف : جاري العزيز ، العُقبان ، يأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين ، صوب العدو مدفع الردى ، اندفع الجنود ،( ...) . و الثاني دال على الخيالي الخارق : عرفته بئرا يفيض ماؤها ، تُبَرْعِمَ الْغُصُونُ فِي الْخَريف ، يَطْلَع النَّبَاتُ فِي الْحَجَر ، تَضْحَكُ الْمَعَامِل ، صَدْرُه الصَّغِيرُ يَمْلأُ الْمَدَى ، الجنون ... و يلاحظ أن المهيمن من بين هذين الحقلين المتضادين هو حقل الخيالي الخارق لأن الشاعر يتجاوز في رؤياه الواقع المادي ، و يمتاح عباراته و ألفاظه من الخيالي ، حيث يتداخل الحلم و المأساة و الخارق . أما إيقاعيا فالتقطيع العروضي للسطر الأول من قصيدة الشاعر يوسف الخال ، يجعلنا نَكْتَشِفُ أن الشاعر نظم قصيدته على تَفْعِيلَةِ بحر الرَّجز (مستفعلن) ، مع وردها تارة صحيحة و تارة أخرى قد أصابها زحاف أو علة نقص . و هذا ما يعني أن شاعر جعل ، بتعديله هذا للتفعلية ، الوزن في خدمة انفعاله الشعوري ، وهو ما دفعه أيضا إلى عدم الالتزام بوحدة الروي و لا القافية ، إذ استند إلى التنوع والتعدد ، حيث تكون قافية القصيدة مُرَكَّبَة أحيانا و مُرْسَلَة أحيانا أخرى . و قد ساهم التكرار في ترسيخ رؤيا الشاعر و جعل إيقاع القصيدة نابعا من داخلها ، كتكراربعض الكلمات و الجمل مثل (إبراهيم ، جاري العزيز ، عرفته من زمن ، تقهقروا ...)
لتجسيد رؤيا الشاعر المتمثلة في استعداد الإنسان الفرد للموت فداء للبشرية استخدم الشاعر الصورة - الرمز، و زهد في الصور البيانية. إذ عمد إلى استخدام رموز دينية و تاريخية و أسطورية ، ( مثل البئر ، إبراهيم ، يولسيس ، أديب ، الخروف ) ، و أفرغها من معانيها المرجعية ، و شحنها بدلالات جديدة تناسب تجربة الفداء والموت الفردي رغبة في حياة الإنسانية بسلام و انعتاقها من واقع مأساوي آثم .
و قد تميزت لغة النص بالميل إلى لغة السرد رغبة من الشاعر في ابتداع شكل جديد يناسب رؤياه ، حيث حضر في النص ثلاثة أصوات : صوت الشاعر / الشاهد الذي توسل بالجمل الخبرية نقلا لما يعرفه عن إبراهيم ، ثم صوت إبراهيم / الحالم : الذي انزاحت لغته عن اللغة المرجعية و توسلت بالممكن و الخارق ، كما استندت إلى المعنى البلاغي لا الحقيقي للجمل الإنشائية ( التمني : لو كان لي أن أموت أن أعيش : الدلالة على طلب المستحيل ) ، ( أتضحك المعامل الدخان ؟ أيأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين ..؟ الاستفهام الذي يفيد الإنكار لواقع جائر جاثم بظلمه الثقيل على كاهل الإنسان مع التطلع إلى تخليصه في المستقبل؟ ) ، ( الأمر : و يجسد صوت الموت / القَتَلى : تَقَهْقَرُوا. و هو الاستعلاء الذي قابله إبراهيم بالتجاهل و واصل طريقه نحو الموت لتحقيق حلمه بالحياة الكريمة للإنسانية.)
الخطوة الخامسة
تركيب النص و تقويمه اعتمادا على مهارة التلخيص ( تلخيص مقصدية الشاعر وأدواته الفنية في تحقيقها ) ، و اختبار فرضية القراءة ، ثم إبراز مدى نجاح الشاعر في استحضار خصائص خطاب تجديد الرؤيا . والختم بإبداء الرأي الشخصي مع تبريره بالمناسب من الحجج .
مثال تطبيقي على التركيب
سعى الشاعر إلى تجسيد رؤياه المتمثلة في الانطلاق من الواقع المألوف و تجاوزه نحو تحقيق الممكن ، مستندا على رمز الجار إبراهيم رمز الفداء و التضحية ، الذي لم يستسلم لواقعه الظالم و الجائر ، و إنما تحداه محلقا في سماوات الحلم والخيال و الممكن تخليصا للإنسان من قبضة المألوف . و قد استعان الشاعر يوسف الخال في تجسيد هذه الرؤيا بمجموعة من الرموز ، التي جعلت القصيدة شبه خالية من الصورة البيانية . كما طوع اللغة و الإيقاع خدمة لنسقه الشعوري : موت الفرد من أجل حياة المجموعة البشرية . و بهذا تكون الفرضية صحيحة . و لا تفوتنا الإشارة إلى أن الشاعر يوسف الخال قد وُفق في تمثل خصائص خطاب تجديد الرؤيا ، و ذلك بابتداعه لشكل جديد يناسب تجربته الشعرية ، حيث تجاوز الشكل المألوف الخطي نحو شكل دائري في بناء قصيدته مع استثماره للسردي و تطويعه لخدمة الشعري ، و استناده أيضا على الرمز .
" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ." من الموقف الثامن والعشرين ، كتاب المواقف والمخاطبات .
لمحمد بن عبد الجبار بن حسن النفري ، أحد أعلام التصوف
بالتوفيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق