مدون مهتم باللغة العربية و أدبها

الاثنين، 28 يونيو 2021

خطاب تجديد الرؤيا : مثال إنشاء أدبي حول نص البئر المهجورة للشاعر يوسف الخال

 

 


اَلْبِئْرُ الْمَهْجُورَةُ
للشاعر يوسف الخال

1) عَرَفْتُ إِبْرَاهِيمَ، جَارِيَ الْعَزِيزَ، مِن

26) وَ الْوَلَدُ الْعَقُوقُ، وَ الْخَرُوفُ ؟ وَ الْخَاطِئُ

2) زَمَانٍ، عَرَفْتُهُ بِئْراً يَفِيضُ مَاؤُهَا،

27) الأصيبَ بِالْعَمَى

3) وَ سَائِرُ الْبَشَرْ

28) لِيُبْصِرَ الطَّرِيقَا ؟ "

4) تَمُرُّ لاَ تَشْرَبُ مِنْهَا، لَا وَ لَا

29) وَ حِينَ صَوَّبَ الْعَدُوُّ مِدْفَعَ الرَّدَى

5) تَرْمِي بِهَا ، تَرْمِي بِهَا حَجَرْ .

30) وَ انْدَفَعَ الْجُنُودُ تَحْتَ وَابِلٍ

6) " لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَنْشُرَ الْجَبِينَ

31) مِنَ الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى،

7) فِي سَارِيَةِ الضِّياءِ مِنْ جَدِيدْ " ،

32) صِيحَ بِهِمْ : " تَقَهْقَرُوا . تَقَهْقَرُوا .

8) يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ فِي وُرَيقَةٍ مَخْضُوبَةٍ

33) فِي الْمَلْجَإِ الْوَرَاء مَأْمَنٌ مِنَ

9) بِدَمِهِ الطَّلِيلِ ، " تُرَى ، يُحَوِّلُ

34) الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى . "

10) الْغَدِيرُ سَيْرَهُ كَأَنْ تُبَرْعِمَ الْغُصُونُ

35) لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ ظَلَّ سَائِراً ،

11) فِي الْخَرِيفِ أَوْ يَنْعَقِدَ الثَّمَرْ ،

36) إِلَى الْأَمَامِ سَائِراً ،

12) وَ يَطْلُعَ النَّبَاتُ فِي الْحَجَرْ ؟ "

37) وَ صَدْرُهُ الصَّغِيرُ يَمْلَأُ الْمَدَى.

13) " لَوْ كَانَ لِي ،

38) " تَقَهْقَرُوا. تَقَهْقَرُوا .

14) لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَمُوتَ أَنْ أَعِيشَ

39) فِي الْمَلْجَإِ الْوَرَاءِ مَأْمَنٌ مِنَ

15) مِنْ جَدِيد، أَتَبْسُطُ السَّمَاءُ وَجْهَهَا

40) الرَّصَاصِ وَ الرَّدَى ! "

16) فَلَا تُمَزِّقُ الْعُقْبَانُ فِي الْفَلَاةِ

41) لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ ظَلَّ سَائِراً

17) قَوَافِلَ الضَّحَايَا ؟ أَتَضْحَكُ الْمَعَامِلُ

42) كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّدَى.

18) الدُّخَانَ ؟ أَتَسْكُتُ الضَّوْضَاءُ فِي الْحُقُولِ ،

43) وَ قِيلَ إِنَّهُ الْجُنُونُ .

19) فِي الشَّارِعِ الْكَبِيرِ ؟ أَيَأْكُلُ الْفَقِيرُ خُبْزَ

44) لَعَلَّهُ الْجُنُونُ .

20) يَوْمِهِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ ،

45) لَكِنِّي عَرَفْتُ جَارِيَ الْعَزِيزَ مِنْ زَمَانٍ،

21) بِعَرَقِ الْجَبِينِ لَا بِدَمْعَةِ الذَّلِيلِ ؟ "

46) مِنْ زَمَنِ الصِّغَرْ،

22) " لَوْ كَانَ لِي أَنْ أَنْشُرَ الْجَبِينَ

47) عَرَفْتُهُ بِئْراً يَفِيضُ مَاؤُهَا،

23) فِي سَارِيَةِ الضِّياءِ،

48) وَ سَائِرُ الْبَشَرْ

24) لَوْ كَانَ لِي الْبَقَاءُ،

49) تَمُرُّ لَا تَشْرَبُ مِنْهَا، لَا وَ لَا

25) تُرَى يَعُودُ يولسيسُ ؟

50) تَرْمِي بِهَا، تَرْمِي بِهَا حَجَرْ.

يوسف الخال، البئرُ المهجورةُ، دار مجلة شِعْر، بيروت، 1958، ص. 36 و ما يليها .

يوسف الخال ( 1917~1978 ) شاعر لبناني سوري من مبدعي قصيدة الرؤيا ، اشتغل بالصحافة ، و مارس النقد الأدبي ، كما أسس مجلة شعر بمعية الشاعر أدونيس . من أعماله الشعرية : الحرية ، و البئر المهجورة .

الخطوة الأولى

    بناء إشكالية الموضوع انطلاقا من تأطير خطاب تجديد الرؤيا الشعري و إبراز خصائصه الفنية و الاستدلال بأبرز شعرائه ، ثم تقديم تعريف موجز لصاحب النص ، و طرح أسئلة مناسبة لما سيأتي في عرض وخاتمة الموضوع الإنشائي . 

 مثال تطبيقي

             إذا كان خطاب تكسير البنية قد تجاوز الشكل التقليدي إيقاعيا ، فإن خطاب تجديد الرؤيا امتداد لهذا التجاوز في الشعر الحديث ، إذ تخلى عن استخدام الصورة الشعرية البيانية ، المتجسدة في التشبيهات و الاستعارات والمجازات والكنايات ، و جعل من الصورة -الرمز إحدى دعامات الشكل الجديد المناسب لمضمون جديد قائم على تداخل الواقع والحلم والخيال والحدس مع استشراف مصير الإنسان في علاقته بذاته و محيطه . و من الشعراء الرؤيويين الذين جعلوا من مضامين القصيدة الحديثة معرفة حدسية حلمية تنبؤية  نذكر، على سبيل المثال لا الحصر ، الشاعر العراقي سعدي يوسف ، والشاعر الفلسطيني محمود درويش ، و الشعراء المغاربة ، كل من أحمد المجاطي ، محمد السرغيني ، و محمد بنيس ،والشاعر السوري أدونيس ، ثم رفيقه في تأسيس تجربة مجلة شعر ، صاحب النص ، الشاعر اللبناني يوسف الخال ، الناقد و المثقف والصحفي الذي أولى أهمية كبرى لتحرير الثقافة و جعلها سبيلا إلى التخلص من التبعية ، كما دعا إلى البحث من أجل إبداع شعر جديد من حيث المضمون ، و من حيث الشكل ، جدة تصل إلى إبداع اللامألوف من الأشكال التي تناسب المضامين الخلاقة و التوليدية . و من أعماله النثرية : دفاتر الأيام ، ومن أبرز أعماله الشعرية ، نجد ديوان الحرية ، وديوان البئر المهجورة ، الذي اقتطفت منه هذه القصيدة . فما رؤيا الشاعر التي يتضمنها هذا النص ؟ وما الرموز التي استند إليها الشاعر في تجسيد رؤياه ؟ و هل نجح في استحضار مميزات قصيدة الرؤيا المضمونية وخصائصها الفنية ؟   

الخطوة الثانية  

 بناء فرضية مناسبة لقراءة النص ، و ذلك استعانة بعتبات النص و بعض المؤشرات الدالة منه. 

 مثال تطبيقي 

    يشير العنوان إلى كسر المألوف بين الموصوف ( البئر ) و الصفة المسندة له ( المهجورة ) ، إذ من المعتاد ارتباط الإنسان بالبئر بما هي مصدر الماء / الحياة ، لا هجرها . و هذا التجاوز للمألوف يتجلى بوضوح أكثر في السطرين الأول و الثاني ، لما نكتشف أن هذه البئر هي جار الشاعر ، المسمى إبراهيم الذي لا يخاف الموت و يتقدم نحوه بشجاعة (كما في الأسطر الشعرية الخامسة والثلاثين ، و السادسة و الثلاثين ، و السابعة و الثلاثين .) . و عليه يمكن اقتراح فرضية أن القصيدة تجسد رؤيا المأساة والتحدي إلى حد خرق المألوف فداء لبني الإنسان.

الخطوة الثالثة  

تكثيف مضامين النص في فقرة منسجمة بعد قراءته قراءة فاحصة و متأنية .

مثال تطبيقي 

     تنقسم القصيدة إلى أربعة مقاطع شعرية محددة طِبَاعِيا بِوُجُودِ بَيَاضَاتٍ فَاصِلةٍ بينها . فقد بدأ الشاعر في تجسيد رؤياه باللجوء إلى صيغة السرد بصوتين ، صوت الشاعر ، و هو السارد الشاهد على إبراهيم الجار العزيز ، الشخصية الغريبة . و صوت إبراهيم ، هذا الأخير الذي سطر أمنيته الأولى المستحيلة بدمه في وريقة . ليتفرد المقطع الشعري الثاني بصوت إبراهيم الذي يَسْبَحُ في عوالم الممكن ، فيتمنى الموت و الانبعاث من جديد من أجل إيقاف آلة الموت التي تنشر المآسي بين الناس ، و ضمانا لعيش الفقير بكرامة . و يواصل إبراهيم في المقطع الشعري الثالث أمانيه ، فيتمنى الخلود رغبة في عودة كل مخطئ في حق الإنسانية إلى صوابه و يعلن تطهره من كل ما سبق أن ارتكبه من أخطاء. و يتوقف التمني الذي يجري في عالم الإمكان بصوت إبراهيم ، ويعود صوت الشاعر ، السارد / الشاهد ، إلى الواقع ، حيث يتدخل صوت ثالث : صوت الرصاص المحذر والمنذر بالمأساة ، فيخبرنا الشاعر / الشاهد بصمود أبراهيم و مواجهته للمصير المأساوي : الموت بشجاعة خارقة . ثم ينقل الشاعر في المقطع الرابع و الأخير شهادات مجهولة المصدر تنعت إبراهيم ، لما يتميز به من شجاعة غير مألوفة في مواجهة المصير ، بالجنون . غير أن الشاعر يعاود تقديم شهادته التي تنزه إبراهيم عن هذه الشهادات المجهولة الجائرة ، و ينعته بالإنسان الخارق وذلك تجسيدا لرؤياه المتشبعة بتحدي الإنسان للمأساة بكل شجاعة و تضحيته من أجل حياة الناس الكريمة .

 الخطوة الرابعة  

 تحليل النص من أجل تحديد معجمه و إبراز مكوناته الإيقاعية و الرمزية و الأسلوبية ، وبيان دلالات كل ذلك في النص . 

 مثال تطبيقي

           استند الشاعر في التعبير عن رؤياه معجميا إلى حقلين دلاليين ، الأول دال على الواقعي المألوف : جاري العزيز ، العُقبان ، يأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين ، صوب العدو مدفع الردى ، اندفع الجنود ،( ...) . و الثاني دال على الخيالي الخارق : عرفته بئرا يفيض ماؤها ، تُبَرْعِمَ الْغُصُونُ فِي الْخَريف ، يَطْلَع النَّبَاتُ فِي الْحَجَر ، تَضْحَكُ الْمَعَامِل ، صَدْرُه الصَّغِيرُ يَمْلأُ الْمَدَى ، الجنون ... و يلاحظ أن المهيمن من بين هذين الحقلين المتضادين هو حقل الخيالي الخارق لأن الشاعر يتجاوز في رؤياه الواقع المادي ، و يمتاح عباراته و ألفاظه من الخيالي ، حيث يتداخل الحلم و المأساة و الخارق . أما إيقاعيا فالتقطيع العروضي للسطر الأول من قصيدة الشاعر يوسف الخال ، يجعلنا نَكْتَشِفُ أن الشاعر نظم قصيدته على تَفْعِيلَةِ بحر الرَّجز (مستفعلن) ، مع وردها تارة صحيحة و تارة أخرى قد أصابها زحاف أو علة نقص . و هذا ما يعني أن شاعر جعل ، بتعديله هذا للتفعلية ، الوزن في خدمة انفعاله الشعوري ، وهو ما دفعه أيضا إلى عدم الالتزام بوحدة الروي و لا القافية ، إذ استند إلى التنوع والتعدد ، حيث تكون قافية القصيدة مُرَكَّبَة أحيانا و مُرْسَلَة أحيانا أخرى . و قد ساهم التكرار في ترسيخ رؤيا الشاعر و جعل إيقاع القصيدة نابعا من داخلها ، كتكراربعض الكلمات و الجمل مثل  (إبراهيم ، جاري العزيز ، عرفته من زمن ، تقهقروا ...)

          لتجسيد رؤيا الشاعر المتمثلة في استعداد الإنسان الفرد للموت فداء للبشرية استخدم الشاعر الصورة - الرمز، و زهد في الصور البيانية. إذ عمد إلى استخدام رموز دينية و تاريخية و أسطورية ، ( مثل البئر ، إبراهيم ، يولسيس ، أديب ، الخروف ) ، و أفرغها من معانيها المرجعية ، و شحنها بدلالات جديدة تناسب تجربة الفداء والموت الفردي رغبة في حياة الإنسانية بسلام و انعتاقها من واقع مأساوي آثم .

         و قد تميزت لغة النص بالميل إلى لغة السرد رغبة من الشاعر في ابتداع شكل جديد يناسب رؤياه ، حيث حضر في النص ثلاثة أصوات : صوت الشاعر / الشاهد الذي توسل بالجمل الخبرية نقلا لما يعرفه عن إبراهيم ، ثم صوت إبراهيم / الحالم : الذي انزاحت لغته عن اللغة المرجعية و توسلت بالممكن و الخارق ، كما استندت إلى المعنى البلاغي لا الحقيقي للجمل الإنشائية ( التمني : لو كان لي أن أموت أن أعيش : الدلالة على طلب المستحيل ) ، ( أتضحك المعامل الدخان ؟ أيأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين ..؟ الاستفهام الذي يفيد الإنكار لواقع جائر جاثم بظلمه الثقيل على كاهل الإنسان مع التطلع إلى تخليصه في المستقبل؟ ) ، ( الأمر : و يجسد صوت الموت / القَتَلى : تَقَهْقَرُوا. و هو الاستعلاء الذي قابله إبراهيم بالتجاهل و واصل طريقه نحو الموت لتحقيق حلمه بالحياة الكريمة للإنسانية.)

 الخطوة الخامسة  

    تركيب النص و تقويمه  اعتمادا على مهارة التلخيص ( تلخيص مقصدية الشاعر وأدواته الفنية في تحقيقها ) ، و اختبار فرضية القراءة ، ثم إبراز مدى نجاح الشاعر في استحضار خصائص خطاب تجديد الرؤيا . والختم بإبداء الرأي الشخصي مع تبريره بالمناسب من الحجج . 

مثال تطبيقي على التركيب

     سعى الشاعر إلى تجسيد رؤياه المتمثلة في الانطلاق من الواقع المألوف و تجاوزه نحو تحقيق الممكن ، مستندا على رمز الجار إبراهيم رمز الفداء و التضحية ، الذي لم يستسلم لواقعه الظالم و الجائر ، و إنما تحداه محلقا في سماوات الحلم والخيال و الممكن تخليصا للإنسان من قبضة المألوف . و قد استعان الشاعر يوسف الخال  في تجسيد هذه الرؤيا  بمجموعة من الرموز ، التي جعلت القصيدة شبه خالية من الصورة البيانية . كما طوع اللغة و الإيقاع خدمة لنسقه الشعوري : موت الفرد من أجل حياة المجموعة البشرية . و بهذا تكون الفرضية صحيحة . و لا تفوتنا الإشارة إلى أن الشاعر يوسف الخال قد وُفق في تمثل خصائص خطاب تجديد الرؤيا ، و ذلك بابتداعه لشكل جديد يناسب تجربته الشعرية ، حيث تجاوز الشكل المألوف الخطي نحو شكل دائري في بناء قصيدته مع استثماره للسردي و تطويعه لخدمة الشعري ، و استناده أيضا على الرمز . 

 

" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ." من الموقف الثامن والعشرين ، كتاب المواقف والمخاطبات .

لمحمد بن عبد الجبار بن حسن النفري ، أحد أعلام التصوف

بالتوفيق

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بطاقات لغوية/ بطاقة الاستفهام

 بطاقات لغوية/بطاقة الاستفهام