إنشاء أدبي حول نص شعري إحيائي
حَطَمْتُ الْيَرَاعَ (بتصرف)
( نظم الشاعر حافظ إبراهيم هذه القصيدة لعتاب بلاده وشعبها على ما حدث يوم الوفاق ، و هو اليوم الذي اتفقت فيه القوى الاستعمارية الفرنسية و الانجليزية بشأن استعمار المغرب و مصر.)
حَطَمْتُ الْيَرَاعَ فَلَا تَعْجَبِي |
وَ عِفْتُ الْبَيَانَ فَلَا تَعْتُبِي |
وَ كَمْ فِيكِ يَا مِصْرُ مِنْ كَاتِبٍ |
أَقَالَ الْيَرَاعَ وَ لَمْ يَكْتُبِ |
فَلَا تَعْذُلِينِي لِهَذَا السُّكُوتِ |
فَقَدْ ضَاقَ بِي مِنْكِ مَا ضَاقَ بِي |
أَيُعْجِبُنِي مِنْكِ يَوْمَ الْوِفَاقِ |
سُكُوت الْجَمَادِ وَ لِعْبَ الصَّبِي |
يَقُولُونَ : فِي النَّشْءِ خَيْرٌ لَنَا |
وَ لَلنَّشْءُ شَرٌّ مِنَ الأَجْنَبِي |
أَفِي الْأَزْبَكِيَّة مَثْوَى الْبَنِين |
وَ بَيْنَ الْمَسَاجِد مثْوَى الْأَبِ |
(وَ كَمْ ذَا بِمِصرَ مِنَ الْمُضْحِكَاتِ) |
كَمَا قَالَ فِيها (أَبُو الطَّيِّبِ) |
أُمُورٌ تَمـرُّ وَ عَيشٌ يُمرُّ |
وَ نَحْنُ مِنَ اللَّهْوِ فِي مَلْعَبِ |
وَ شَعْبٌ يَفِرُّ مِنَ الصَّالِحَاتِ |
فِرَارَ السَّلِيمِ مِنَ الْأَجْرَبِ |
وَ صُحْفٌ تَطِنُّ طَنِينَ الذُّبَابِ |
وَ أخرى تشنُّ عَلى الْأَقرَبِ |
وَ هذا يلوذُ بقصرِ السَّفِيرِ |
وَ يطنِبُ فِي وِرْدهِ الْأَعْذَبِ |
وَ هذا يصيحُ مع الصَّائِحين |
عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ وَ لا مأْرَبِ |
وَ قَالوا : دَخِيلٌ عَلَيْهِ الْعَفَاءُ |
وَ نِعمَ الدَّخِيلُ عَلى مَذْهَبِي |
رَآنَا نِيَاماً وَ لَمَّا نَفِقْ |
فَشَمَّرَ للسَّعْي وَ الْمَكْسَبِ |
وَ مَاذا عليه إذَا فَاتَنَا |
وَ نَحْنُ عَلَى الْعَيْشِ لَمْ نَدْأَبِ |
أَلِفْنَا الْخُمُولَ وَ يَا لَيْتَنَا |
أَلِفْنَا الْخُمُولَ وَ لَمْ نَكْذِبِ |
نبذة عن صاحب النص حافظ إبراهيم( 1872-1932) شاعر إحيائي مصري، لُقب بشاعر النيل، وجمعت أشعاره الكثيرة في ديوان يحمل عنوان "ديوان حافظ إبراهيم" |
شروحات 1) الْيَرَاعُ : هُو قَلَمٌ مِن القَصَب للكتابةِ 2) يُمرُّ: العيش، أي يفقد لذته و معناه 3) الأزبكية : حديقة عريقة بالقاهرة كانت تضم في عهد الشاعر دار الأوبرا وكذا المسرح 4) لمّا نَفِقْ: لم نَصْحُ و نستيقظ من غفلتنا. 5) العفاء: الزوال و النهاية . |
الخطوات المنهجية لكتابة إنشاء أدبي حول نص شعري
الخطوة الأولى: بناء إشكالية عامة تكون بمثابة مقدمة للموضوع الإنشائي ، و هو بناء يتدرج من العام إلى الخاص وصولا إلى الأخص مع إنهاء المقدمة بثلاثة أسئلة : السؤال الأول حول مضامين النص الشعري ، السؤال الثاني يطرح حول الخصائص الفنية ، بينما يكون السؤال الثالث سؤالا عن مدى تمثيل النص الشعري / موضوع التحليل / للخطاب الذي ينتمي إليه .
الخطوة الثانية: بناء فرضية مناسبة لقراءة النص تكون عبارة عن توقع لمحتوى القصيدة / النص الشعري، و ذلك بالاستناد إلى عتبات النص [ العنوان، صاحب النص و شكله... ]و شكله و بعض المؤشرات النصية الدالة [أبيات من البداية و الوسط و النهاية].
الخطوة الثالثة: تكثيف مضامين النص و بناء معناه ، بعد قراءته قراءة فاحصة و متأنية بغرض فهمه ، و تقسيمه إلى وحدات أو مقاطع شعرية دالة ، إذا لم يكن مقسما بوجود فراغات بين المقاطع النصية أو نجيمات تارة ، ولازمة تتكرر تارة أخرى [ مثل لازمة لنكن أصدقاء ] .
الخطوة الرابعة: تحليل النص و تفكيكه من أجل إبراز دلالاته عناصره المعجمية، و الكشف عن خصائصه الفنية [الإيقاع، الصورة الشعرية، و الأساليب ]
الخطوة الخامسة: استجماع نتائج التحليل و تلخيصها من أجل بيان مقصدية الشاعر ، ثم تمحيص فرضية القراءة ومدى تمثيل النص الشعري / موضوع التحليل / للخطاب الذي ينتمي إليه ، و إنهاء هذه الخطوة بتقويم النص من خلال إبداء الرأي الشخصي و توكيده بالمناسب من الحجج و الأدلة.
تطبيق المهارة على نص حافظ إبراهيم
مقدمة الإنشاء الأدبي
الخطاب الإحيائي خطاب شعري ظهرت بوادره الأولى في محاولات شعرية بمصر و سوريا في متم القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين . توخى شعراء هذا الخطاب فك قيود الانحطاط التي شلت حركة تقدم الشعر العربي فضلا عن تخليصه من النزعة البديعية التي حولته إلى زخرفة لغوية و قتلت رسالته و معانيه السامية . و ذلك من خلال رد الاعتبار للشخصية القومية/ العربية والهوية الثقافية الأصيلة بالإضافة إلى التمسك بعمود الشعر. حيث تميز الخطاب الإحيائي برد الاعتبار لمفهوم الشعر و الاحتفال بالصور البيانية ثم الاقتباس من التراث الشعري باعتباره نموذجا . و قد قلد هذا النموذج في نظم الشعر مجموعة من الشعراء ، أبرزهم شاعر السيف و القلم محمود سامي البارودي ، و أمير الشعراء أحمد شوقي ، و الشاعر محمد بن إبراهيم و نظيره علال الفاسي ، ثم الشاعر المصري حافظ إبراهيم الملقب بشاعر النيل ، الذي ضم ديوانه الشعري قصائد تتوزع أغراضها بين المدح والرثاء والهجاء و أغراض أخرى . فما المضامين الشعرية لنص حطمت اليراع ؟ و ما خصائصه الفنية؟ و إلى أي حد نجح الشاعر في استحضار مقومات الخطاب الإحيائي خلال نظم هذا النص الشعري ؟
فرضية القراءة
العنوان يدل على تخلي الشاعر عن فعل الكتابة لسبب ما سيطلعنا عنه مضمون البيت الرابع ، و الذي يتجلى في عتاب الشاعر أهل بلاده ولومهم عن التحلل من قيم الطيبة و الأدب ، كما يفيد البيت التاسع حالة التذمر التي عليها الشاعر جراء ما يعرفه شعب بلاده من ترك لقيم البناء و النبل . و عليه نفترض أن تحمل هذه القصيدة التقليدية/ الإحيائية رسالة احتجاجية من الشاعر بتركه كتابة الشعر و قوله ، رسالة تحمل معاني اللوم والعتاب و التذمر التي يتوجه بها حافظ إبراهيم إلى أهل بلاده بعد انسلاخهم عن قيم البناء والنبل و انغماسهم في وحل الوضاعة و المهانة .
تقسيم النص إلى مقاطع شعرية دالة و تلخيص مضامينها في فقرة منسجمة
يمكن تقسيم النص، بعد قراءة متأنية و فاحصة، إلى أربعة مقاطع شعرية دالة: يمتد أولها من مطلع النص إلى البيت الرابع منه. ويبدأ المقطع الثاني من البيت الخامس ثم ينتهي عند البيت السابع. في حين يضم المقطع الشعري الثالث خمسة أبيات شعرية [ من البيت الثامن إلى البيت الثاني عشر ]. و يتشكل المقطع الرابع مما تبقى من النص.
لقد رام الشاعر في المقطع الشعري الأول الاحتجاج، من خلال تركه الكتابة و تخليه عن نظم الشعر، على الوضع المزري الذي أصبح يكرسه أهل بلاده. و استنكر، في المقطع الثاني، الواقع الفاسد الذي دفعه إلى الاحتجاج، و هو واقع يجمع بين السكوت عن ضياع الحق وفساد الناشئة إلى حد التفرقة بين الشباب و الشيوخ. و الحال هذا جعل من مصر موطنا للتناقض و التشتت. ثم أبرز حافظ إبراهيم مظاهر هذا الواقع الفاسد المتناقض، في المقطع الثالث، التي نوجزها في هيمنة الميل إلى المنافع الشخصية على حساب المصلحة العامة. و انتهي النص، في المقطع الرابع، بانتصار الشاعر للدخيل المتبني لقيم البناء و العمل، وانتقد بعض سلوكيات شعب مصر المتجسدة في الخمول والكذب.
المكون المعجمي : الجرد ، التصنيف ، و الاستنتاج
هيمن في نص حطمت اليراع حقلان دلاليان ، دل الأول على قيم النبل و الرفعة ، في حين دل الثاني على قيم الوضاعة والانحطاط . و نمثل للحقل الأول من النص بالألفاظ و العبارات الآتية: اليراع ، البيان، الأديب ، الطيب ، خير ، مساجد ، أبو الطيب ، السليم ... أما الألفاظ و العبارات الدالة على الحقل الثاني من النص فنجرد منها ما يأتي : السكوت ، يوم الوفاق ، سكوت الجماد ، لعب الصبي ، شر ، الأزبكية ، المضحكات ، عيش يمر ، اللهو ، يفر من الصالحات ، الأجرب ، طنين الذباب ، نياما ، الخمول ، نكذب . ونستنتج أن العلاقة بين الحقلين هي علاقة تناقض لأن الشاعر رفض الواقع القائم في بلاده على قيم الأنانية و الوصولية و الخمول ، و تطلع في المقابل إلى واقع يليق بقيم الكتابة و نظم الشعر: قيم النبل و الرفعة .
المكون الإيقاعي
1) الوزن، القافية، و الروي:
يقودنا التقطيع العروضي للبيت الأول من النص كما يأتي :
حَطَمْتُ الْيَرَاعَ فَلَا تَعْجَبِي *** وَ عِفْتُ الْبَيَانَ فَلَا تَعْتُبِي
رموز الحركات و السواكن و التفاعيل : //0/0 ( فَعُولُنْ) = (حَطَمْتُ الْ) //0/ ( فَعُولُ) = (يَرَاعَ) //0/0 (فَعُولُنْ) = (فَلَا تَعْ) //0 ( فَعِلْ)= ( جَبِي) بالنسبة للشطر الأول . //0/0 ( فَعُولُنْ ) = ( وَ عِفْتُ الْ ) //0/ ( فَعُولُ ) = ( بَيَانَ ) //0/0 (فَعُولُنْ ) = ( فَلَا تَعْ ) //0 ( فَعَلْ) = ( تُبِي) بالنسبة للشطر الثاني من البيت الأول .
إلى استنتاج أَنَّ الشاعر حافظ إبراهيم قد نظم قصيدته على بحر المتقارب:( فَعُولُنْ فَعُولُ فَعُولُنْ فَعَلْ /// فَعُولُنْ فَعُولُ فَعُولُنْ فَعَلْ )
وَ تتحدد القافية في البيت الأول كما يأتي : تَعْتُبِي ( /0//0 ) و هي قافية مُطْلَقَةٌ لِأنَّ رَوِيَّهَا مُتَحَرِّكٌ ، و يتجسد الروي في الْبَاءِ المتحركة ، و هو روي موحد مادام يتكرر في نهاية كل بيت ، من أول بيت إلى آخر بيت في النص .
2) مظاهر الإيقاع الداخلي: التوازي، التكرار، الجناس، الاشتقاق:
أ) التوازي و أنواعه :
يطالعنا منذ البيت الأول التوازي النحوي و الدلالي ( بالترادف و بالتضاد كذلك ) بين الوحدات اللغوية للشطر الأول والوحدات اللغوية للشطر الثاني، ونوضح هذا التناظر النحوي كما يأتي:
[حَطَمْتُ]فعل ماض وفاعل / / [عِفْتُ]: فعل ماض وفاعل، [الْيَرَاعَ]: مفعول به منصوب / / [الْبَيَانَ]: مفعول به منصوب، و هكذا دواليك بالنسبة للباقي من الوحدات اللغوية في شطري البيت الأول. و هو تواز أفقي تام نحويا، نجده حاضرا في البيت السادس كذلك، و نوضحه هذه المرة دلاليا، حيث تتوازى وحدات الشطر الأول دلاليا مع وحدات الشطر الثاني ، تارة بالترادف ، و تارة أخرى بالتضاد. و ذلك كما يأتي :
التوازي الدلالي القائم على علاقة شبه الترادف بين الوحدتين اللغويتين:[ فِي / / بَيْنَ ] ، و علاقة تضاد بين [الْأَزْبَكِيَّة / / الْمَسَاجِد]، و على علاقة تطابق بين [مثْوَى / / مثْوَى] ، ثم على علاقة تضاد بين [الْبَنِين / / الْأَبِ ]. و في مقابل التوازي الأفقي يعمد الشاعر إلى التواز العمودي بداية من البيت التاسع إلى البيت الثاني عشر ، إذ يحصل تناظر بين وحدات الأشطر الأولى من هذه الأبيات الشعرية .
ب) تجليات التكرار:
اتخذ التكرار تجليات متنوعة و متعددة في نص حافظ إبراهيم ، و من هذه التجليات نرصد تكرار الصوامت الآتية: الباء ، العين ، الجيم ، السين ، الذال ، في حين كانت الغلبة في تكرار الصوائت لحركة الكسرة و تلتها الفتحة ثم الضمة. أما الكلمات فقد تكررت بكثرة، منها، على سبيل المثال لا الحصر: [مصر، اليراع، سكوت ]. في حين تكررت في النص الجملة الآتية : [أَلِفْنَا الْخُمُولَ]. وصرفيا شمل التكرار الصيغ الصرفية الآتية : [الْفَعَال : الْيَرَاع = الْبَيَان ] ، [مَفْعَل: مَلْعَب = مَكْسَب = مَذْهَب ]، [الْأفْعَل : الْأَجْرَب ، الْأَقْرَب ، الْأَعْذَب]. فضلا عن تكرار النسق العروضي، بداية من الروي المتحرك ، مرورا بالقافية المطلقة ، و وصولا إلى بحر المتقارب .
ج) بعض المحسنات البديعية:
تخللت النص مجموعة
من المحسنات البديعية ، نكتفي منها بالتصريع و الجناس و الاشتقاق . تجسد الأول في البيت الأول، حيث وافق
آخر الشطر الأول [بِي] آخر الشطر الثاني [بِي]. في حين تجلى الجناس الناقص في ما يأتي: [الأقرب = الأجرب]، [ تعجبي = تعتبي ]. و نمثل للاشتقاق من النص ب: [أمور تمر]، [تطن طنين].
استنتاج : ساهم الإيقاع بنوعيه ، بحطمت اليراع ، في صهر المعاني المتعددة داخل وحدة موسيقية ، و منح النص طاقة إيقاعية شدت القارئ و أقنعته على مواصلة القراءة إلى النهاية ، كما أنه قام بترسيخ المعاني ، و جعل أذن المتلقي تطرب لجمالية النص التي انبثقت من داخله مع التوازي و التكرار بالخصوص ، إذ عملت دينامية المخالفة والمؤالفة على القضاء على الرتابة .
الصورة الشعرية
لعب الشاعر حافظ إبراهيم باللغة بيانيا ، وذلك تطويعا لها حتى تتسع لموقفه مما يجري ببلاده من أمور لم يستسغها، فاعتمد مثلا على الاستعارة المكنية في البيت الأول :[ حَطَمْتُ الْيَرَاعَ فَلَا تَعْجَبِي /// وَ عِفْتُ الْبَيَانَ فَلَا تَعْتُبِي ]، حيث أسند أفعالا إنسانية إلى مصر، و هو يخاطبها ، مثل [تَعْجَبِي ، تَعْتُبِي ] . كما استخدم الاستعارة المكنية في بداية الشطر الثاني من البيت الرابع [أَيُعْجِبُنِي مِنْكِ يَوْمَ الْوِفَاقِ /// سُكُوت الْجَمَادِ وَ لِعْبَ الصَّبِي ] ، و ذلك بإسناد فعل السكوت الإنساني للجماد ، من أجل المبالغة في تصوير الإنسان مسلوب الإرادة ، التابع للمستعمر ، ثم أنهى هذا الشطر بالكناية [لِعْبَ الصَّبِي]، وذلك كناية على غياب النضج و الجدية في اتخاذ القرارات المصيرية ، و قد اعتمد الشاعر الكناية من باب الإيجاز في التعبير عن موقفه الرافض لتوقيع اتفاقية مصيرية مع المستعمر ، و كذا من أجل إقناع المخاطب / المتلقي بفداحة هذا الفعل . فضلا عن استخدامه التشبيه في البيت التاسع [وَ شَعْبٌ يَفِرُّ مِنَ الصَّالِحَاتِ // فِرَارَ السَّلِيمِ مِنَ الْأَجْرَبِ]، حيث شبه هروب الشعب المصري من قيم الإصلاح و عزوفه عنها بهروب الإنسان المعافى والسليم من المصاب بالجرب و ابتعاده منه تجنبا للعدوى ، إضافة إلى صور أخرى استعان بها الشاعر حافظ إبراهيم من أجل التعبير عن موقفه الاحتجاجي تجاه بلاده و حال شعبها.
المكون الأسلوبي
عبر الشاعر عن موقفه بلغة ، رغم قدمها ، يفهمها الجميع ، و قد عمد إلى المزاوجة ، نحويا ، بين الجمل الاسمية و الجمل الفعلية. نمثل للأولى من النص بما يأتي:[ وَ كَمْ فِيكِ يَا مِصْرُ مِنْ كَاتِبٍ ، فِي النَّشْءِ خَيْرٌ لَنَا ، وَ لَلنَّشْءُ شَرٌّ مِنَ الأَجْنَبِي ، أَفِي الْأَزْبَكِيَّة مَثْوَى الْبَنِين ، وَ بَيْنَ الْمَسَاجِد مثْوَى الْأَبِ ، أُمُورٌ تَمـرُّ وَ عَيشٌ يُمرُّ...] ، أما الجمل الفعلية فمنها ما يأتي :[ حَطَمْتُ الْيَرَاعَ فَلَا تَعْجَبِي ، وَ عِفْتُ الْبَيَانَ فَلَا تَعْتُبِي ، فَلَا تَعْذُلِينِي لِهَذَا السُّكُوتِ ، فَقَدْ ضَاقَ بِي مِنْكِ مَا ضَاقَ بِي ، أَيُعْجِبُنِي مِنْكِ ، ... أَلِفْنَا الْخُمُولَ ]. وتدل الجمل الفعلية على الحركة و الفعل النابعين من موقف الشاعر : فعل الاحتجاج قصد استنهاض همة الشعب و بث حركة الحياة في أوصاله ، في حين تدل الجمل الاسمية على الجمود ، جمود الواقع ، و قد استخدمها الشاعر لرسم صورة ساخرة لواقع بلاده و أهلها ، وذلك من باب نقد حال مجتمع مصر الخامل والراكن إلى الكذب . و قد تنوعت الضمائر في النص بين ضمير المتكلم المفرد [بِي]، و ضمير المخاطب المفرد المؤنث[مِنْكِ]، و ضمير المتكلم الجمع [نَحْنُ]، ثم ضمير الغائب الجمع [يَقُولُونَ]. و قد عكس هذا التنوع في الضمائر البعد الحواري الذي تتميز به هذه القصيدة، حيث يميل الشاعر إلى إقامة حوار ناقد و بناء مع مصر و أهلها من أجل إيقاظ الهمم و نقد الضمائر الغافلة عن ضياع الحق. أما من الناحية البلاغية فقد توزعت لغة النص بين أسلوبي الخبر والإنشاء، و نستدل على أسلوب الخبر بالأمثلة الآتية من النص:[ حَطَمْتُ الْيَرَاعَ فَلَا تَعْجَبِي.. وَ صُحْفٌ تَطِنُّ طَنِينَ الذُّبَابِ.. وَ هذا يصيحُ مع الصَّائِحين..]، كما نمثل لأسلوب الإنشاء بالجمل الآتية : [فَلَا تَعْجَبِي ، فَلَا تَعْتُبِي ، فَلَا تَعْذُلِينِي، أَفِي الْأَزْبَكِيَّة مَثْوَى الْبَنِين؟ ، يَا لَيْتَنَا أَلِفْنَا الْخُمُولَ]. وعليه فوظيفة الجمل الخبرية في النص هي وصف حال مصر المزري، بينما عبرت الجمل الإنشائية عن موقف الشاعر صوب هذا الواقع .
تركيب و تقويم
تركيب: تخلى الشاعر عن نظم القريض احتجاجا على ما وصلت إليه مصر و شعبها من انغماس في الانحطاط والوضاعة والعزوف عن قيم الإصلاح . و قد اختار الشاعر معجما يناسب صوته الاحتجاجي و موقفه الناقد ، و استعان بوحدة الروي و بحر المتقارب زيادة على التكرار و التوازي لمنح نصه طاقة إيقاعية متجددة ، فضلا عن استخدام الصور البيانية تطويعا للغة و جعلها تعبر فنيا عن هذا الموقف الناقد ، مع اعتماد جمل تنوعت بين الاسمية و الفعلية نحويا ، و بين الخبرية و الإنشائية بلاغيا . وعليه فالفرضية التي انطلقنا منها صحيحة. و به وجب التوكيد على أن الشاعر قد نجح في استحضار مقومات الخطاب الشعري الإحيائي في نص حطمت اليراع ، و من هذه المقومات : جزالة الألفاظ ، و كثرة البيان ، و الاقتباس من القدماء [إذ اقتبس الشاعر حافظ إبراهيم شطرا كاملا من شعر أبي الطيب المتنبي(وَ كَمْ ذَا بِمِصرَ مِنَ الْمُضْحِكَاتِ) ، مع تصوره الشعر كضرورة اجتماعية ، أخلاقية و سياسية على خلاف شعراء عصر الانحطاط الذين اعتبروه ترفيها و تسلية فقط .
تقويم: لقد وفق حافظ إبراهيم في جعل الشعر ، من خلال نصه هذا ، يؤدي وظيفته النقدية و ينشر رسالته التوعوية التنويرية كلما ذاع الجمود و عم الكسل بين الناس ، غير أنه بالغ في الانتصار للقديم على حساب الجديد الذي له صلة بالواقع ، وكان ذلك حينما نظر نظرة استهجان ورفض إلى رواد الأزبكية بما هو فضاء يرمز إلى المجتمع الحديث ، لما يشتمل عليه مؤسسات ثقافية كالمسرح و دار الأوبرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق