1) توطين الفصل الثالث
2) أبرز المضامين الفكرية للفصل الثالث بمؤلف ظاهرة الشعر الحديث
1.2) تأطير تجربة الحياة و الموت
1.1.2) تجربة الحياة و الموت و تجربة الغربة و الضياع: علاقة اتصال أم انفصال ؟
2.1.2) المنهج الأسطوري في تجربة الحياة و الموت
2.2) رصد مبادئ و تجليات تجربة الحياة و الموت بتجارب أربعة شعراء[أدونيس ، خليل حاوي ، بدر شاكر السياب ، عبدالوهاب البياتي]
1.2.2) التحول عبر الحياة و الموت في تجربة الشاعر علي أحمد سعيد ( أدونيس )
2.2.2) معاناة الحياة و الموت في تجربة الشاعر خليل حاوي
3.2.2) الفداء في الموت في تجربة الشاعر بدر شاكر السياب
4.2.2) جدلية الأمل و اليأس في تجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي
المنجز
1) توطين الفصل الثالث
الفصل
الثالث هو امتداد للفصل الثاني المعنون بتجربة الغربة و الضياع ، ذلك أن
المؤلف أحمد المعداوي يواصل في الفصل الثالث رصد مظاهر التطور و التجديد مع
الحركة الشعرية الثانية على مستوى المضامين بالتركيز على معاني الأمل و
الانبعاث. وهو الفصل الذي يحتل الحيز النصي الأكبر في مؤلف ظاهرة الشعر
الحديث ، حيث يغطي ست وثمانين صفحة بامتداده من الصفحة [107] إلى الصفحة [193] .
2) أبرز المضامين الفكرية للفصل الثالث بمؤلف ظاهرة الشعر الحديث
1.2) تأطير تجربة الحياة و الموت
1.1.2) تجربة الحياة و الموت و تجربة الغربة و الضياع: علاقة اتصال أم انفصال؟
يستهل أحمد المعداوي الفصل الثالث
بمقدمة يوضح فيها أن الشعر العربي الحديث لم يكن شعر يأس وحزن وضياع و سأم فقط ،
كما في تجربة الغربة و الضياع ، بل كان شعر أمل وتطلع أيضا لَمَّا كانت الأسباب
السياسية و الثقافية و الاجتماعية مناسبة ، و يذكر المؤلف منها ثورة مصر ، تأميم
القناة ، و ثورة أقطار المغرب العربي لنيل استقلالها . و يعدُّ المعداوي إيقاع
اليأس الوجه الأول للعملة الشعرية الحديثة ، التي يتمثل وجهها الثاني في إيقاع
الأمل ، إيقاع يعبر عن اللحظات المُشْرِقَة في الواقع العربي . كما يؤكد المعداوي ، في تمهيده للفصل الثالث ، أن معاني التجدد
و البعث و الأمل نتجت عن إيقاع اليأس في تجربة الغربة و الضياع . و عليه لا يمكن
الفصل زمنيا بين التجربتين ، تجربة الغربة والضياع و تجربة الحياة والموت ، ذلك أن التداخل و التعاقب هو ما يسم طبيعة
العلاقة بينهما ، مثلما تتداخل و تتعاقب لحظات الخيبة و لحظات الإشراق . و من هنا
يعتبر الناقد أحمد المعداوي أن التجربة الشعرية الحديثة تجربة تجاذب بين إيقاع
اليأس و إيقاع الأمل ، و هيمنة إيقاع على الآخر تؤدي إلى نتائج عكسية .
إن نجاح تجربة
الشاعر رهين بإيمانه بجدلية الحياة و الموت ، ذلك أن ما يراه الشاعر في تجربته
يختلف عما نراه نحن فيها ، كما يؤكد هذا الحكم الشاعر عبد الوهاب البياتي ، الذي
يشهد أن معاناته وليدة إيمانه أن " الباطل الحقيقي ليس هو الموت ، و لكنه
الفرار من مواجهة الموت " ، لأن مواجهة الموت لا تعني الانتحار بل تعني
تحمل مسؤولية الحياة . و عليه إن قدر الشاعر هو حياته ، من منظور المعداوي ، في
حين يبقى الموت جسرا نحو الحياة ، و وسيلة للتطهر من أوساخ الحياة الماضية ، و
دافعا إلى الثورة على رواسبها في الحياة الجديدة . إذ يقر الشاعر أدونيس " أن
الإنسان جدل دائم بين حياته و موته ، بين بدايته ونهايته ، بين ما هو وما سيكون
" . فارتباط ذات الشاعر بالثورة يجعل وجود هذه الذات وجودا نوعيا بالنسبة
للوجود الإنساني ، و يجعلها لبنة حية في عملية التجدد و البناء ، كما يرى الشاعر
عبد الوهاب البياتي . وبعد
تحليل جدلية الحياة و الموت لدى بعض الشعراء ، يستنتج أحمد المعداوي أن تجربة
الغربة والضياع تجربة شعرية مرتبطة بالحاضر بما هو حاضر واقع الدمار و المعاناة ،
و أن تجربة الموت و الحياة تجربة شعرية متطلعة إلى المستقبل بما هو زمن التجدد و
البعث و اليقظة . وبهذا التجدد والاستشراف والتطلع حازت التجربة الشعرية الحديثة
مكانة التفرد في تاريخ الشعر العربي ، من وجهة نظر المؤلف ، الذي يستثني من حكمه
تجربة شعراء المهجر ، رغم ما يؤاخذ عليها من عدم التركيز على التجدد و البعث
بوصفهما أولوية ، و غياب التماسك ، وهيمنة الحيرة و التردد و الحياة الحالمة في
أشعارشعرائها ، فيبقى لتجربة بعض اقطابها
الفرادة في الدعوة إلى بعث الأمة و تجددها . و
يستشهد أحمد المعداوي على صحة رأيه بتجربة ميخائيل نعيمة في قصيدة الحائك . ثم يخلص
إلى أن تجربة الموت عند المهجريين مرتبطة بفكرة التناسخ ، في حين أن التجربة نفسها
مع الشاعر الحديث تتصل بموت الذات و موت الحضارة ، و تقترب من فكرة الفداء
المسيحية .
2.1.2) المنهج الأسطوري في تجربة الحياة و الموت
ينظر المؤلف إلى الشاعر الحديث
بوصفه شبيها بالبطل أو النبي في معرفته بأسرار الكلمة و حملها بمعاناة إلى
قلوب
الناس و ضمائرهم من أجل نفث روح البعث و اليقظة و التجدد فيهم . وبالتالي
تحويل
إحساسهم بالموت إلى إحساس بالحياة. و هي مهمة تتطلب تجاوز العقل والمنطق ، و
اللجوء إلى الأساطير و الرموز المناسبة لهذه المهمة ، في الثقافات
الإنسانية . فلم
يكتف الشاعر الحديث في تفسيره المقنع للغز الحياة المعقد و لغز الموت
المحير
بفكرة التناسخ ، بل تجاوزها إلى تفاسير أخرى موجودة في الأساطير البابلية
واليونانية و الفينيقية و العربية . وعاد أيضا إلى المعتقدات المسيحية و
التراث
العربي و الإسلامي ، كما استعار ما يخدم غرضه من الفكر و التاريخ الإنسانيين عامة . وبعدما
حدد المؤلف وظيفة الشاعر الخارقة و أدواته الأسطورية و الرمزية الجديدة لإقناع
الناس بضرورة البعث و التجدد ، قدم عينات من هذه الأساطير و الرموز التي استخدمها
في تحقيق مهمته ، منها : أسطورة تموز ( إله الخصب ) وعشتار ، اللذين يلتقيان في
عالم الموت شتاء ثم يبعثان قبيل الربيع ، وأسطورة أورفيوس (رمز قدرة الفن على قهر الموت و
العدم ) ، و هو الفنان الذي أنقذ حبيبته أورديس من قبضة الوحوش الآلهة بأنغامه
العُلوية ، وأسطورة طائر الفينيق الذي أحرق نفسه لينبعث من رماده الربيعُ ، وأسطورة
قاهر الموت صقر قريش (الذي شق القبر ، و ألقى فيه موته وحلق طائرا ) ، وأسطورة
الخِضر صاحب الحياة الأبدية ، و أسطورة نادر الأسود ، و أسطورة مهيار ، الذي مات
لكي ينهي عقد الموت ، و أسطورة العنقاء التي تموت فيلتهب رمادها وتحيا حياة ثانية
، وأسطورة السندباد رمز البحث عن قيم الحق و الفضيلة .
و يستنتج
المعداوي أن الاعتماد على الأساطير و الرموز أثمر ما سماه بالمنهج الأسطوري ،
المنهج الذي يقدم به الشاعر مشاعره و تجربته في صورة رمزية لا تخاطب العقل ، و
إنما تخاطب اللاشعور بوصفه مكمن المعتقدات
المشتركة . وهذا لا يعني ، من وجهة نظر المعداوي ، أن كل شاعر لجأ إلى الرمز أو
الأسطورة هو شاعر يتبع المنهج الأسطوري .
2.2) رصد مبادئ و تجليات تجربة الحياة و الموت بتجارب أربعة شعراء[أدونيس ،خليل حاوي ، بدر شاكر السياب ، عبدالوهاب البياتي]
1.2.2) التحول عبر الحياة و الموت في تجربة الشاعر علي أحمد سعيد ( أدونيس )
شبه المؤلف أحمد المعداوي إحساس أدونيس صوب واقع أمته الميت بإحساس المسيح تجاه القديس لِعَازَرْ ، الإحساس الذي أَهَلَهُ لإحياء الواقع و بعثه ، انضاف إليه وعي الشاعر المتميز أمام واقع حضاري مهزوم . و قد قسم أحمد المعداوي تجربة الحياة و الموت لدى أدونيس إلى مسلكين اثنين : خصص المسلك الأول للحيرة و التساؤل والبحث عن وسيلة البعث من الموت ، و باشر في المسلك الثاني بعث الواقع العربي و الدفع به نحو التجدد انطلاقا من مفهوم التحول . ويبين الكاتب كيفية تدرج أدونيس في تجربته الشعرية من التساؤل والحيرة إلى البحث عن الوسيلة لينتهي باكتشاف واقع منهار كليا ، و ذلك بتقديم عينتين شعريتين ، الأولى من قصيدة الرأس والنهر و الثانية من قصيدة مرايا للمثل المستور ضمن ديوان المسرح و المرايا . حيث تصدى الشاعر ، رغم هذا الانهيار ، لكل يأس و آمن بإمكان بعث الأمة من جديد . و هو الإيمان الذي قاده في المسلك الثاني نحو مفهوم التحول بما هو موت لوجود قديم وحياة لوجود جديد .
و بعد التوضيح لمسلكي معاني الموت و الحياة ، ينتقل الكاتب أحمد المعداوي إلى إبراز و تقويم مكامن قوة وضعف هذه التجربة الشعرية القائمة على مفهوم التحول ليستنتج أن التوفيق حالف الشاعر لما كان التحول يتم بما هو مقنع ، مثل تضحية الشهيد في سبيل أمته التي يتحول على إثرها إلى حياة أخرى ، ( حياة زهرة ) كما في قصيدة الرأس و النهر . بينما كان الفشل مصيره حينما جعل التحول موغلا في الخيال و الرمزية الغامضة ، مثلما في قصيدة تحولات الصقر من ديوان كتاب التحولات و الهجرة في أقانيم النهار و الليل .
إن قيمة تجربة الحياة و الموت لدى أدونيس تكمن ، كما يرى المؤلف ، في مفهوم التحول ، رغم ما سبقت الإشارة إليه من أخطاء في هذه التجربة . و لتوضيح تقويمه أكثر يحلل المعداوي قصيدتين اثنين في تجربة الحياة والموت لإبراز مضمونهما الرمزي القائم على التحول : القصيدة الأولى بعنوان " تيمور و مهيار " ، و الثانية موسومة ب" الأسماء " . و ذلك لاعتبار من المؤلف أن القصيدة الأولى تمثل نجاح أدونيس في استخدام مفهوم التحول للتعبير عن تجربة الحياة و الموت ، و أن القصيدة الثانية مظهر من مظاهر إخفاقه . كيف ذلك ؟
جوابا عن السؤال ( كيف ) يشرع أحمد المعداوي في الكشف عن المضامين الرمزية للقصيدة الأولى : "تيمور و مهيار" التي تتكون من ثلاثة مقاطع ، إذ يعذب تيمور ( رمز الاستعباد و القهر ) مهيار ( رمز الشعب والتحرر ) عذابا بالنار ، ثم يزج به في السجن وحيدا في المقطع الأول . ليكتشف في المقطع الثاني أن مهيار حر خارج السجن ، دون أن يأمر بإطلاق سراحه ، فيقوده التساؤلُ عن معرفة كيفية الخروج من معقله إلى جواب مهيار القائم على التحول: أنه تحرر بفضل قانون الحياة / التحول الساري مفعوله على كل الكائنات : الإنسان ، الشمس ، الأشجار ، الأنهار ، و الأفلاك . غير أن استبداد تيمور سيدفع به إلى تجاهل هذه الحقيقة، في المقطع الثالث، فيقطع رأس مهيار و يقطع جسده قطعا صغيرة لتأكله الأسود . و تحدث المفاجأة بانبعاث تيمور مما يولد الفزع في نفس تيمور ، و يجعل الموت يسري في جسده . و الحال هذا يستنجد بساحره لمسخ مهيار ، غير أن وصفات الساحر بكل ألوانها لم تفلح في مسخ مهيار ، و إنما زادته شعورا بقوة الحياة . و يقرر تيمور حينها قتله مع منعه من الانبعاث بحرقه وسط تمثال نحاسي أجوف ليصبح رمادا . و ينتج عن هذا أن تمطر السماء نارا على المدينة لفترة طويلة ، ويعتبر المعداوي هذه الفترة فترة المخاض الذي يسبق البعث و التجدد . ثم ينبعث مهيار ثانية من وسط الرماد فتنبعث معه الأمة كلها . و يرد المؤلف نجاح فكرة التحول في قصيدة تيمور و مهيار إلى عاملين اثنين : العامل الأول يعود إلى أن فكرة التحول مستوحاة من أسطورتي الفينيق و العنقاء . و العامل الثاني يتجسد في تمتع مهيار بإرادة الحياة التي لا يقهرها الموت . ثم يستنتج أحمد المعداوي ، بعد تحليل المضامين الرمزية للقصيدة " تيمور و مهيار " ، أن أدونيس وفق في استخدام مفهوم التحول لأنه استطاع أن يقنعنا .
إذا كان النجاح في استخدام مبدإ التحول قد تحقق لأدونيس في قصيدته "تيمور و مهيار" ، فإنه قد أخفق و و لم ينحج في استخدام هذا المبدأ في قصيدة " الأسماء " ، ذلك أنه لم يستطع إقناع المؤلف بالتحول الذي كان فجائيا و دون إعداد المتلقي لتقبله . ثم يوضح المعداوي مضامين القصيدة ، التي بدأت بنشدان الشاعر التحول وسيلة لتغيير واقع الأمة العربية لينتقل إلى تفسير طريقته في هذا التغيير ، في بضع أسطر شعرية ، من خلال نقل عصر الخليفة والتابعين إلى عصرنا ( القرن العشرين ) ، وذلك بقلب الأسماء لتنقلب معها الأشياء إلى ضدها . و يرى الكاتب أحمد المعداوي أن هذه الطريقة في التحول ، و إن كانت تعود إلى تفاؤل الشاعر الناتج عن رغبته الصادقة في تجاوز الواقع ، فإنه يظل تفاؤلا وهميا ، تغيب فيه المبررات الفكرية و الفنية لإقناعنا بإمكان التحول و انبعاث الأمة ، مثلما حصل في قصيدة " تيمور و مهيار " .
ب) خلاصة عامة حول تجربة الحياة و الموت لدى أدونيس
يختم المؤلف دراسته لتجربة الموت و الحياة عبر التحول بخلاصة تجعل نجاح المنهج الأسطوري في تجربة أدونيس نجاحا ساريا على كثير من شعره حول معنى الحياة و الموت ، كما في قصيدة " تيمور و مهيار " . غير أن مفهوم التحول لدى هذا الشاعر تجاوز جدلية الحياة و الموت نحو العمليات الكيميائية التي لا تقيم مسافة بين الحياة والموت ، أو بين المادة و الروح . وبذلك تجاوز بشعره حركة التاريخ العربي من أجل إقامة حوار مع زمن لم يأت بعد ، ويقارن تجربته هاته بتجربة الشاعر خليل حاوي التي أقامت حوارا مع المستقبل دون أن تفقد صلتها بحركة التاريخ العربي .
2.2.2) معاناة الحياة و الموت في تجربة الشاعر خليل حاوي
أ) تقديم
أقام الشاعر خليل حاوي تجربته الشعرية في الحياة و الموت على مبدأ المعاناة : معاناة الخراب و البعث ، مثلما ورد في بداية ديوانه الأول ، " نهر الرماد " ، كما أنه نظر إلى القصيدة ، في تقديمه لقصيدة " بعد الجليد " ضمن الديوان نفسه ، بوصفها تعبيرا عن معاناة الموت و الحياة . و يقدم أحمد المعداوي مثالا يدل على كثرة ورود لفظة المعاناة في أشعار خليل حاوي ، و يتجلى في قصيدة " حب و جلجلة " التي تشير إلى معاناة الموت في حب الحياة وتحدي محنة الصلب ، و كذلك في قصيدة " بعد الجليد " التي تدل على معاناة جحيم النار من أجل يقين الانبعاث. ويرى الكاتب أنه رغم معاناة الشاعر فقد بقي الحاضر حاجزا أمام احتراق الذات و تطهيرها قبل ولادة جديدة. وهو التأخر الذي يعمق معاناة الشاعر في ديوان " نهر الرماد" كاملا .
ب) مظاهر معاناة الموت في ديوان نهر الرماد
يشرع المؤلف ، بعد تأطير عام لتجربة خليل حاوي الشعرية ، في رصد وتصنيف مظاهر المعاناة في قصائد هذا الديوان ، فيكشف أن القصيدة الأولى : " البحار و الدرويش " هي بداية إبحارالشاعر من معاناة الموت نحو ضفة معاناة الحياة . و تمثل قصيدة " ليالي بيروت " معاناته بين مسؤولية الفداء و الهروب إلى مواخير المدينة. و لا يتحمل الشاعر في قصيدة" دعوى قديمة" الهروب فيعود إلى براءة الطفولة ، إنه هروب من معاناة الشاعر التفسخ الذي يؤدي إلى الموت نحو البراءة التي تنتج عنها الحياة . و يسترسل أحمد المعداوي في رصد مظاهر معاناة الواقع الميت للكشف عن مظاهر الحياة الكامنة خلفه . و هي المعاناة التي تحققت للشاعر، كما يرى المؤلف ، من خلال العلاقة الجنسية التي ينهار المجتمع و الأسرة و الفرد بانهيارها ، مثلما في قصيدة " نعش السكارى " حيث تنتج المرأة الصوت بدل الحياة ، و يعتريها الندم في قصيدة " جحيم بارد " على إقامة علاقة مع الشاعر تتأرجح بين فشل العلاقة الجنسية و انهيار الواقع الحضاري للمجتمع ، فيتحول بيت الزوجية إلى قبر ، ليظل الشاعر أسير المعاناة بين الحياة والموت . و يعجز و المرأةَ في قصيدة " بلا عنوان " عن استرجاع اليقين و تشعر باحتضاره . و يشعر بموتها في قصيدة "الجروح السود " فيعترف بفشل العلاقة الجنسية ليحل الفراق و يتحول بيت الشاعر إلى قبر يشمل الواقع كله ، و تزداد معاناته عمقا ، لتصبح مأساوية ، بتعبير المؤلف، الذي يسميها معاناة حقيقة الموت في الحياة ، معززا رأيه بعناوين القصائد : " جوف الموت " إذ تلف الحمى جسدَ الشاعر . و يبلغ اليأسُ قمته في قصيدة " السجين " ، يأس من إمكان الحياة، ومعاناة الشاعر الموت وحده ، فتعم اللعنة الواقع العربي و يمسخ في قصيدة " سدوم ".
و يستنتج الكاتب ، بعد رصد مظاهر المعاناة و الكشف عنها في قصائد ديوان نهر الرماد ، أن الشاعر قد عانى في قصائده الثلاث الموت من خلال معاناة الموت في الحياة ، بينما عانى في القصائد الخمس الأخيرة من هذا الديوان الحياة و الموت معا . و قد هيأ امتزاج الواقع بالأسطورة فيها ، من منظور المعداوي ، المتلقي لتقبل معاناة التحول في ديوان "الناي و الريح " . ثم يقف عند القصائد الخمس الأخيرة من ديوان " نهر الرماد " ليكشف عن مظاهر معاناة الموت و الحياة معا في مضامينها الرمزية . و قد حدد هذه القصائد في الآتي : بعد الجليد ، حب و جلجلة ، المجوس في أروبا ، عودة إلى سدوم .
لقد استوحى الشاعر في قصيدة " بعد الجليد " أسطورة تموز تسهيلا لعملية التحول . و قسم المعداوي هذه القصيدة إلى دورتين اثنتين : الدورة الأولى يهيمن فيها إيقاع الموت على إيقاع الحياة مما دفع الشاعر إلى التوسل بتموز رغبة في النجاة. أما الدورة الثانية من القصيدة فيمتزج فيها الإيقاعان ليتغلب في النهاية إيقاع الحياة. و يوضح المعداوي هذا الامتزاج في البداية باشتهاء الأرض للشمس و البذور ، غير أن الجليد الذي يغطيها يؤجل عودة تموز/ الربيع من العالم السفلي. و الحال هذا ، يعرب الشاعر عن استعداده للاحتراق ، على شاكلة احتراق العنقاء ، من أجل بعث الأمة. و يشير المؤلف إلى أن البعث لم يتحقق للشاعر رغم ما تضمنته القصيدة من أحلام ، و يؤكد رأيه بما ورد في نهايتها من تضرع الشاعر إلى تموز كناية على استمرار المعاناة/ معاناة التحول قبل تحقق البعث .
و يعاني الشاعر في قصيدة " حب و جلجلة " معاناة مزدوجة : معاناة الموت الذي يشده إلى القبر ، و معاناة الحياة التي يرمز إليها صراخ الأطفال دلالة على الحياة و التجدد . و تنتهي بميل الشاعر إلى معاناة البعث و التجدد. ويصبح الموت من أجل الحياة هيِّناً في قصيدة "المجوس في أروبا " ، حيث يرفض الشاعر البعث المستعار من الآخر و يريده نابعا من أعماق الذات . فيبدأ التحول في قصيدة " عودة سدوم " بعد احتراق الذاكرة و التاريخ و نسل العبيد ، و انبعاث جيل من رماد الحريق ، الجيل الذي يطمح إلى إبداع الخوارق من أجل الحضارة العربية. و بعد مخاض عسير / معاناة يتحقق البعث في قصيدة " الجسر " ، فيتجه الجيل الجديد ، الذي يختار الشاعر الانتماء إليه، نحو الشرق الجديد تاركا وراءه نهر الرماد ، و هو بعث لم يشمل جيل المأساة الذي لم يستسغ طعم الحياة الجديدة.
ج) مظاهر معاناة التحول في ديوان الناي و الريح
يشكل ديوان " الناي و الريح " إعلانا من الشاعر خليل حاوي تحمل مسؤولية التخلص من ذاته القديمة لمواكبة البعث العظيم . و يوضح الكاتب أحمد المعداوي هذا التحمل للمسؤولية ، خلال الكشف عن المضامين الرمزية لقصيدة " عند البصَّارة "، إذ يلجأ الشاعر وعيا منه بالصمت إلى البصَّارة / العرَّافة من أجل إطلاعه على أسرار المستقبل / المصير ، و يكون ردها والجنَّ الذي يحل بها أن لا إمكان للبعث و لا شيء بعد الصمت المرعب سوى التهريج و السحر و الجنون . فيرتعب الشاعر ويخبر الجن الحالَّ بالعرافة أنه يرى طريق تحمل المسؤولية : مسؤولية مواكبة البعث العظيم بشعر عظيم مثله . و رؤية الطريق تعني ، من منظور المؤلف ، النزول إليه و تحرير الذات من الرواسب القديمة. و هذا ما يتجلى في بداية قصيدة " الناي و الريح " ، حيث ينزل الشاعر و يخطو خطوتين اثنتين في طريق الشعر ، كما يدل على ذلك الريح ، رمز الثورة /نغمة التفاؤل ، غير أن نهاية القصيدة مطبوعة بالتشاؤم ، دلالة الناي على الحزن و الذكريات الأليمة . و ينظر أحمد المعداوي إلى هذه النهاية باعتبارها دلالة على عدم تحرر ذات الشاعر بعد ، لأنها مازالت مقيدة بالتقاليد البالية رغم تطلعها إلى معانقة الكلمة بما هي مبدعة الثورة والانتصار على الموت و جمع شمل الذات و الوطن و الأمة .
و لأهميتها يخص أحمد المعداوي قصيدة السندباد في رحلته الثامنة بتحليل مفصل لمضامينها الرمزية بعدما قسمها إلى عشر دورات . يبحر الشاعر مع داره / رمز ذاته ، في الدورة الأولى ، و يقرر إفراغها حتى يطيب المقام للشعر الذي يتعقبه . ثم يتفقد ، في الدورة الثانية ، أمتعة الدار فيجدها بالية و قديمة ، ليشرع ، في الدورة الثالثة ، بالتخلص من هذه الأمتعة برميها في البحر ، و يتخلى عن كل ما نشأ عليه ، إذ لم يتبقى له سوى الانتظار : انتظار الخلافة و البعث ، لتغمره البِشارة بعد المعاناة . و تعتريه ، في الدورة الرابعة ، حالة من حالات النُبُوَة فيرى داره / ذاته تنهض من أنقاضها ، ويكتشف أنها النبضة الأولى ، فيفرغها مرة ثانية لعلها تهتدي إلى رؤيا البعث العظيم / الشعر العظيم ، و يعيش ، في الدورة الخامسة، حالة صرع ، و تبدأ معاناة الانتظار الأخير و يعبر عنها بالمناجاة ، في الدورة السادسة ، و تقيم الدار / الذات علاقات جديدة قائمة على الطهر و البراءة فياستقبال العبارة ، في الدورة السابعة ، و هي العلاقة التي ينجح الشاعر في إقامتها للبعث و للشعر . و في الدورة الثامنة تتحقق الرؤيا الجديدة للشاعر بدون لفظ ، فتنفجر الذات دموعا و أسئلة قاتلة ، ويجدها رؤيا قريبة من الحدس و الرجم بالغيب . و تتكثف رؤيا الشاعر عن بعث الأمة ، في الدورة التاسعة ، فيحدثنا عن جيل المأساة الذي يتطهر من الخطيئة لاستقبال إشراقة البعث . ليصبح في الدورة العاشرة / الأخيرة شاعر البِشَارَة . و يختم المعداوي هذه الدراسة للمضامين الرمزية لقصيدة " السندباد في رحلته الثامنة " بسؤال : هل نال الشاعر ما طمح إليه ، بعد المعاناة ، من بعث عظيم و شعر عظيم ؟ أم أنه كان يجري وراء وهم أن الكلمة يمكن أن تزرع الحياة في الأرض الموات ؟ و هو السؤال الذي سيبحث عن جواب له في ديوان " بيادر الجوع " .
د)مظاهر معاناة الخيبة في ديوان بيادر الجوع
ه) خلاصة عامة حول تجربة الحياة و الموت لدى الشاعر خليل حاوي
يستنتج المؤلف أن المعاناة في تجربة الشاعر خليل حاوي كان لها دور في تحقيق التوافق بين إيقاع الأمل وإيقاع اليأس عبر مجموعاته الشعرية الثلاثة ، و بين الحقبة التاريخية التي كتبت فيها : فقد كتب ديوان " نهر الرماد" في الفترة الممتدة من 1953 و 1956 ، و هي فترة تاريخية مظلمة تخللها شعاع ثورة مصر ، و هذا ما يراه الناقد مبررا لظهور نغمة الأمل في القصيدتين الأخيرتين من هذه المجموعة / الديوان . بينما كتب ديوان " الناي والريح " في فترة زاهية ، بين 1956/ 1958. أما ديوان " بيادر الجوع " فقد كان وليد فترة انفصال مصر و سوريا ، فترة ما قبل النكسة . و يرد أحمد المعداوي عظمة تجربة الموت و الحياة لدى الشاعر خليل حاوي إلى توافق مجموعاته / دواوينه الشعرية مع حركة الواقع العربي ، و كذا إلى قدرة الشاعر على تجاوز الواقع المرعب و معاينته كما في قصيدة " لِعَازَر عام 1962 ."
3.2.2) الفداء في الموت في تجربة الشاعر بدر شاكر السياب
أ) تقديم
ما يميز تجربة الحياة و الموت لدى الشاعر بدر شاكر السياب ، من منظور المعداوي، هو أن الموت في هذه التجربة يأخذ طبيعة الفداء و يؤدي إلى بعث الحياة . إذ أن الخلاص عند السياب لا يكون إلا بمزيد من الأموات ، مثلما عبر عن ذلك في قصيدة " النهر و الموت " . و يصبح الموت في قصيدة " قافلة الضياع " شرطا للحياة ، و يخافه أعداء الحياة في قصيدة " رسالة من مقبرة " لما فيه من طبيعة الفداء . و يزداد عمق طبيعة الفداء في تجربة الحياة والموت عند السياب ، من وجهة نظر المؤلف ، باستخدام الشاعر النموذج الأسطوري استخداما ناجحا ، مثل نموذج المسيح في قصيدة " المسيح بعد الصلب " .
ب) تجربة الموت / الفداء من أجل البعث في قصيدة المسيح بعد الصلب
إن المسيح بعد الصلب هي القصيدة التي خصها أحمد المعداوي بوقفة متأنية تبين مضامينها الرمزية ، من خلال تقسيمها إلى سبعة مقاطع . حيث مر المسيح ، في المقطع الأول على صليبه و بقي وحيدا ليكتشف أن الصلب لم يمته . وقد أبرز المعداوي مظاهر قوة الحياة ، التي يتمتع بها المسيح المصلوب في هذا المقطع ، حيث يقابل اقتناع المسيح بالحياة انخداع الكون بالموت الزائف . و يجمع بين بعث المسيح المصلوب و بعث الأمة العربية ، التي يرمز لها باسم قريته جيكور ، في المقطع الثاني . و يرى الشاعر أن قبول المسيح بالموت هو من باب الفداء للفقراء والجائعين . الموت الذي ستترتب عنه حياة أكثر خصوبة و عظمة . ثم يصبح موت المسيح ، في نهاية المقطع الثاني ، بعثا حقيقيا للأمة بأكملها . وينسب بدر شاكر السياب الموت الذي لا يثمر فداء ، بما هو موت أعداء المسيح ، في المقطع الثالث ، إلى أعداء الأمة ، و يرمز لهم بالخائن يهوذا ، الذي أفزعه بعث المسيح و خلخل قناعته الراسخة : إن الموت يكون مرة واحدة . لقد شمل هذا الفزع أيضا رفاق يهوذا ، في المقطع الرابع ، فاندفعوا نحو مكان الصلب ليتأكدوا من حقيقة البعث . و هو الاندفاع الذي تقابله طمأنينة المسيح لبعثه . وقد فصل الشاعر كيف تم هذا البعث ، في المقطع الخامس ، إذ يرى أنه تم كانبثاق الضوء أو تأرجح الظل بين الليل والنهار . ثم يحدثنا الشاعر ، في المقطع السادس عن الجدل بين إصرار البطل على الموت / الفداء و بين إرادة الحياة لدى الجماهير الشعبية . فيوضح أن في فدائه بعثا لأمته ، و أن الموت هين ، في نظره ، لأنه يثمر بعث الأمة . و تتحقق جدلية الحياة و الموت ، في المقطع السابع / الأخير ، إذ يحدث مخاض المدينة و يكون البعث العظيم .
يؤكد أحمد المعداوي أن الشاعر السياب استفاد من الإطار الأسطوري في تحويله الموت إلى فداء ، و جعل الفداء ثمن البعث . غير أن مأساة بدر تكمن ، من وجهة نظر الناقد المعداوي ، في تزايد و تناقص نسبة اشتهاء الموت لديه ، و هذا التذبذب ينعكس على طبيعة البعث ، إن كان هناك بعث ، ويجعله بعثا مزيفا . و يضرب المؤلف مثالاعلى ذلك بقصيدة " مدينة السندباد " .
ج) خلاصة عامة حول تجربة الحياة و الموت لدى الشاعر بدر شاكر السياب
4.2.2) جدلية الأمل و اليأس في تجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي
أ) تقديم
ينبه أحمد المعداوي بداية إلى ما تميزت به تجربة البياتي الشعرية قبل ديوانه " الذي يأتي و لا يأتي " من تناقض ، إذ هيمنت نغمة اليأس في المضمون العاطفي بأعماله الشعرية من وجهة نظر نقدية أساسها المنطق ، و كانت الغلبة للنزعة المتفائلة التي أساسها المنطق الجدلي الحي من وجهة نظر الشاعر الإبداعية . ثم يعقب كاتب ظاهرة الشعر الحديث، منتقدا وجهة نظر الناقد عزالدين إسماعيل تجاه تجربة الشاعر عبد الوهاب البياتي، في ديوانه " النار والكلمات " ، فقوَّم نظرته النقدية الجزئية لصور الأمل في هذا الديوان و تبنى مقابلها النظرة الكلية، التي تأخذ من جهة بالحسبان كل أعمال البياتي الشعرية بعد ديوان " النار و الكلمات" ، و تنبه من جهة أخرى إلى ضرورة وضع تجربة البياتي داخل إطارها الفكري الشامل : جدلية الحياة و الموت التي تخلق الشاعر الثوري ، الشاعر الذي يجعل ثورته متصلة بكل زمن و مكان لتمنح الأشياء الحياةَ .ثم يوضح الناقد صلة قضية الأمل و اليأس بالثورة البياتية ، ويكشف أن لهما علاقة بالتزام الشاعر الذاتي و الاجتماعي تجاه الثورة العربية ، و بطبيعة هذه الثورة التي تجهض ذاتها كل لحظة ليخلص المعداوي ، في تقديمه لدراسة تجربة البياتي الشعرية ، إلى أن طبيعة علاقة اليأس بالأمل لدى هذا الشاعر ليست علاقة مد و جزر ، و إنما هي علاقة صراع بين قطبي الموت و الحياة : موت الذات و الحضارة ثم بعثهما.
يصف المؤلف و يحلل ، بعد تأطيره العام لتجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي ، المنحنيات الرئيسية للأمل واليأس داخل جدلية الحياة و الموت رغبة في الوصول إلى إطار فكري تقريبي لجدلية اليأس و الأمل. و قد وقف أحمد المعداوي في تجربة عبدالوهاب البياتي الشعرية عند ثلاثة منحنيات ، حددها في ما يأتي : المنحنى الأول يمثل انتصار الحياة على الموت ، و قد تجسد في أعمال البياتي الشعرية السابقة على ديوان : " الذي يأتي و لا يأتي " ، و تنحصر هذه الأعمال في :" كلمات لا تموت " ، " النار و الكلمات " ، و " سفر الفقر و الثورة " . و تتعادل في المنحنى الثاني الذي يمثله ديوان " الذي يأتي و لا يأتي " كَفَّتَا الحياة و الموت . ثم ينتصر الموت على الحياة في المنحنى الثالث ، كما تدل على ذلك أشعار " ديوان الحياة و الموت. "
نبه المعداوي إلى أن دراسته للمنحنى الأول ، منحنى الأمل ، سيطبعها الإيجاز، وقد أرجع ذلك إلى كثرة الدراسات النقدية من وجهة النظر الاشتراكية، التي عرفها هذا المنحنى ، و هي الدراسات التي يرى فيها المؤلف إساءة إلى الشاعر البياتي و شعره من جهتين : من جهة وصفها له بالشاعر الثوري ، و من جهة أخرى ، جعلها الثورة تحيا في شعره بالأمل، و إغفال حياتها بالقلق و الشك و الانتظار .
ب.1) منحنى الأمل
يعتبر المؤلف رحلة الشاعر في هذا المنحنى رحلة معركة و كشف عن مظاهر الخراب مع الأمل ، و بتقدم الخطى عبر مسار رحلته ، تقترب الأطروحة من سياقها ليبدأ التركيب الذي ينتهي بفعل الوعي و عزيمة النضال لصالح الحياة ، من وجهة نظر المعداوي، حيث يحصل تقابل بين الحياة و الموت في هذا المنحنى، التقابل الذي تكون فيه الهيمنة للموت ، سواء في نضال الشاعر بمنفاه ، أو في نضال الوطن و الرفاق . هؤلاء الذين يصبح سقوطهم في نفس الشاعر محنة للحياة و معرفة بها . و هذا ما يجعل بغداد رمز الوطن تحيا في ضحاياها بدل أن تموت بموتهم ، من خلال تفاعل جدلية الحياة و الموت. إذ يصبح موت المناضل انتصارا على الموت . ثم يستنتج أحمد المعداوي أن الموت كان خطوة النضال الأخيرة في تجربة البياتي الشعرية ، في هذا المنحنى . الخطوة التي قادته إلى حياة حقة بفعل الموت بوصفه باب التجدد و البعث . و يحصر المؤلف العوامل التي كانت وراء الدفع بطرفي جدلية الحياة و الموت في منحنى الأمل في عاملين اثنين ، عامل الوعي المتجدد ، ثم عامل النضال المستمر في مرحلة ما قبل ديوان " الذي يأتي و الذي لا يأتي " ، فماذا حدث بعدما تسرب التبدد إلى زمن النضال دون أية نتيجة تذكر ، مع استمرار الوعي بالذات وبالواقع؟ ينهي كاتب ظاهرة الشعر الحديث منحنى الأمل بهذا السؤال ، و يمهد لدراسة منحنى الانتظار.
ب.2) منحنى الانتظار
يشرع المؤلف في دراسة منحنى الانتظار في تجربة عبدالوهاب البياتي الشعرية بتوضيح المضمون الرمزي لمقطع شعري من النشيد السابع ضمن ديوان " الذي يأتي و الذي لا يأتي " بوصفه مقطعا يجسد معنى الانتظار ، وأهم ما يفيده تعليق انبعاث الوطن ( رمزه بابل ) . و يشير الكاتب إلى ما يحفل به ديوان " الذي يأتي و لا يأتي " من تشتيت المتناقضات الذي يشل أي حركة جدلية تعيد إلى الذهن إمكان انتصار الحياة على الموت . ثم يضرب أحمد المعداوي مثلا بما تتعرض له شخصية الخيام من تقلبات في النشيد السادس عشر ، فتارة يصارع الثيران في مدريد (لعبة الموت) ،وتارة ثانية يضاجع النساء ( لعبة الحياة ) ، و تارة ثالثة يعلم الصبيان في الهند ... و بهذا تتشتت أجزاء الصورة الواحدة تحت إيقاع الانتظار . ثم ينتقل المؤلف إلى فحص هذه الصورة المشتتة / الممزقة لمعرفة إن كانت تنبض بالبعث/ الحياة أم العكس ، و سينجز المعداوي هذا الفحص عبر أربعة خطوط هي : خط الحياة ، خط الموت ، خط السؤال ، و خط الرجاء .
خط الحياة
يرجع الناقد توهج هذا الخط مرة إلى طبيعة الخيام المحكوم عليه بالحياة الأبدية ( رأيته يمتد من جيل إلى جيل كخيط نور ) ( سطر شعري من نشيد خيط النور ) ، و مرة ثانية إلى طبيعته الثورية و قدرته النضالية ، و تحمله العذاب، ومرة ثالثة إلى التفات الشاعر إلى جدلية الحياة و الموت التي ما زالت راسخة في أعماقه ، و يرمز لها بالعملة القديمة ، و مرة رابعة إلى دم الشهداء ، و خامسة إلى لون الانفعال من طول الانتظار كما في الرباعيات التي ختم بها الديوان .
خط الموت
يتجاوز الموت في ديوان " الذي يأتي و لا يأتي " موت الإنسان نحو موت الأسطورة و النماذج الأسطورية . و يرد المعداوي ميل الشاعر إلى قتل المنهج الأسطوري لإقناعنا إن الموت مجرد جسر عبور نحو الحياة الحقة . و قد تم هذا على صعيدين اثنين : على صعيد الوسط الأسطوري الذي قام الشاعر بمسخه و قتله ، إذ نقف في قصيدة "العودة من بابل " أمام نيسابور تشوى حية ، و إرم ذات العماد تغرق في الظلام، و بابل في قصيدة " الرؤيا الثالثة " تعيش تحت سطوة الظلام بلا زاد و لا معاد .أما على صعيد الأبطال الأسطوريين : فبعدما كان الأبطال يقهرون الموت ويخرجون من تحت الجليد و من القبور و أكوام الرماد ، أصبحوا فريسة سهلة للموت بفعل الانتظار الذي اتعبهم واتعب ما يرمزون له من قيم ، كما نجد تموز و عشتروت ( رمز قيم الخصب و الحياة ) في قصيدة العودة من بابل . والشأن نفسه مع عائشة ( رمز قيمة الحب ) ، و شهريار ( رمز قيمة التوبة ) ، و سندباد ( رمز البحث عن الحق والفضيلة و المحبة ) . لقد أنهى المعداوي دراسته لخط الموت بخلاصة مفادها أن موت الأبطال الأسطوريين و القيمَ التي يرمزون لها هو موت الثورة و الخيام الذي انتظر طويلا . إنه الموت الذي يخفف من وهج الحياة في الصورة المشتتة/ الممزقة.
خط الاستفهام
يظهر خط الحيرة و التساؤل في الصورة المشتتة لجدلية الحياة و الموت بديوان " الذي يأتي و لا يأتي " . ويرى الكاتب أحمد المعداوي أن هذا الخط مجاور لخط الموت داخل هذه الصورة ، فيشرع في تفسير هذا التجاور من خلال وقوفه على خمسة أسئلة : السؤال الأول يرتبط بموت الوسط الأسطوري رمز العدالة و الحقيقة ( في نشيد الطفولة ) . و يتساءل الشاعر ( في نشيد طردية ) عن بعث بابل مدينة الحق و العدل و عن أزهار حدائقها المعلقة . ثم يخص بالسؤال الثاني موت عائشة و كَثْرِينْ ( موت الحب ) و سطوة الحزن على العشاق . و يرتبط السؤال الثالث بموت شهريار ، الذي بموته غابت التوبة و انتشر ظلم الحكام دون توقف . في حين يشمل السؤال الرابع المتسائلين عن الحقيقة في بابل و العشاق و المظلومين في غياب العدالة . أما السؤال الخامس فيتوجه نحو مصير عظام الخيام الجافة في انتظار من يسقيها . وتبقى هذه الأسئلة ، كما يرى المعداوي ، أسئلة استنكارية تثبت عكس ما يطلبه السائل/ المُسْتَفْهِمُ .
خط الرجاء و التمني
يجسد هذا الخط انتقال النضال من الفعل إلى الحلم ، فكل الرغبات معلقة بالرجاء ( لَعَلَّ ) أو بالتمني ( لَوْ ) . ويشير المعداوي إلى قوة هيمنة مدلول الامتناع ( لَوْ ) في هذا الخط على مدلول الرجاء ( لَعَلَّ) ، و هي القوة التي أبطلت وظيفة الحلم في تقريب المسافة بين الموت و الحياة ، غير أنه كان للحلم دور خلق جو من التوقع و الانتظار ، دون النجاح في جمع أجزاء الصورة المشتتة سوى لصالح خط الموت ، و هو ما أضعف خط الحياة رغم حضوره وحفاظه على مسافة فاصلة بينه و بين خط الموت . و سيؤدي كل هذا ، حسب رأي المعداوي ، بالشاعر في تجربته الشعرية إلى الموت الذي لا يقود إلى البعث ، و إنما هو موت في الحياة
.
ب.3)منحى الشك
يرى المعداوي أن الشاعر قد أظهر في ديوان " الموت في الحياة " ، بوصفه ديوان منحى الشك ، قدرة كبيرة على كشف القيم المهترئة و الميتة التي يروج لها العُور ( مفردها أَعْوَر) و الأقزام و أشباه الرجال و المرتزقة من شعراء مهرجين ليقتلوا القيم المنبثقة من قوة النضال و سلطان الثورة . و هذه الحقيقة تطلب الوصول إليها ، كما يرى المؤلف ، الكشف عن زيف النضال العربي لأنه لا بعث دون نضال أو موت . و قد قدم المعداوي قصيدة " شيء من ألف ليلة و ليلة " مثالا على كشف النقاب على حقيقة النضال العربي ، بشكل ساخر و مضحك ، من أجل الإحاطة بالأسس التي قامت عليها الرحلة النضالية / رحلة السندباد الثامنة مع خليل حاوي( رحلة العودة بالبشارة ) ، رحلة جلجمش بحثا عن شجرة الحياة ، ليعود بغصن من أغصانها فتأكله الحية و يكتب لها الخلود دون البشر . و تصل إطاحة الشاعر بأهداف / أسس الرحلة النضالية إلى نقلها فوق السرير ليؤكد أنه نضال مزيف و ضرب من الخيال الذي يقود إلى بعث مفرغ من كل القيم الإنسانية السامية ، إنه بعث دون حب و دون كرامة و عدل و قدرة على مواجهة التحديات. إنه البعث الذي يؤدي رفضه لا إلى الموت الحقيقي و لا إلى البعث الحقيقي ، و إنما يوصل إلى الموت في حياة الجمود ، حيث يغطي الشعور بالركود طرفي جدلية الحياة و الموت و يبعدها عن نعيم الصيرورة ، كما يعلق المعداوي .
ج) خلاصة عامة حول تجربة الحياة و الموت لدى الشاعر عبدالوهاب البياتي
ينوه كاتب ظاهرة الشعر الحديث ، بعد إنهائه عرض تجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي ، بقدرة هذا الأخير على كشف الواقع بخصوص الموت و كذا بقدرته على الإيمان بالثورة بخصوص الحياة . ثم يتوصل المؤلف إلى أن صور اليأس و الأمل و القلق و الانتظار عند هذا الشاعر تنفجر في الواقع الذي يحياه وفق منطق جدلي ، فيقر أن هذا المنطق هو الذي يصلح أن يكون الإطار الفكري لصور الأمل في ديوان " النار و الكلمات"،وهو الإطار الذي افتقده عزالدين إسماعيل في دراسته لهذا الديوان .
3) خلاصات عامة حول تجربة الحياة و الموت في التجربة الشعرية الحديثة
إن التقاء هؤلاء الشعراء عند معاني الحياة و الموت ، من منظور أحمد المعداوي ، راجع إلى اشتراكهم في الإحساس و الوعي العميقين بواقع ما بعد النكبة ، و كذا إلى مفهومهم الشمولي للإبداع الشعري باعتباره مركز التقاء هموم الذات و هموم الجماعة ، و هو الالتقاء الحميمي الذي يتداخل فيه موقف الشاعر من الماضي مع موقفه من المستقبل . و توحيد مواقف هؤلاء الشعراء _ شعراء التجربة الشعرية الحديثة _ كان الهدف منه الحياة و التجدد والانتصار على التحديات التي يرمز لها الموت بما هو موت الذات ، موت الزمن ، و موت الوجود القومي و الإنساني للأمة العربية . كما يرى المعداوي أن صراع الموت و الحياة في تجربة الشاعر الحديث هو صراع بين الحرية و الحب و التجديد من خلال الثورة و بين الاستعباد و الحقد و النفي من المكان و التاريخ . ليؤكد أن قدرة الشاعر الحديث على رصد الواقع و تصويره بدقة ، و استشرافه المستقبل من خلال التنبؤات المبنية على صراع القيم ، كل هذه الأمور جعلت من التجربة الشعرية الحديثة قيمة مضافة إلى التجربة الشعرية العامة ، من حيث توحيد الحس الفردي و الحس الجماعي ، و من حيث ارتباطها بحركة التاريخ .
يلاحظ المؤلف أنه رغم ما قدمه هؤلاء الشعراء من رؤى و تنبؤات كان تحققها مأساويا في الواقع العربي ، فإن الحكام آنذاك لم تكن لهم آذان واعية تسمع ، و هو ما جعل أمل دنقل يخاطب هؤلاء الشعراء بزرقاء اليمامة . و قد دام ارتباط تجربتهم الشعرية بحركة التاريخ عشرين سنة( من النكبة 1948 إلى النكسة 1967) . و لهذا يعتبر أحمد المعداوي أن الشعر العربي الحديث قد قام بمهمته على مستوى كشف الواقع ، أو على مستوى استشراف المستقبل ، كما قام أيضا بإغناء مضمونه بالروافد الثقافية المختلفة التي جعلته متفردا عن المضامين الشعرية السابقة له . ثم يعرج المؤلف على العوامل التي حالت دون وصول الشعر الحديث إلى الجماهير العربية حتى يتحول إلى طاقة جبارة . و قد أجملها في أربعة عوامل ؛ أولها ديني _ قومي : الخوف من الشعر الحديث أن يشوه الشخصية الدينية _ القومية لما يتمتع به من جرأة صوب التراث . و ثانيها ثقافي : اقتناع بعض النقاد و الشعراء بجماليات الشعر القديم جعلهم يرفضون الشعر الحديث. أما ثالثها فهو سياسي : تجسد في خوف الحكام من المضامين الثورية للشعر الحديث الذي دفعهم إلى مصادرة بعض الدواوين و منع أخرى من الدخول إلى بعض الأقطار ، كما سُجِن الشعراء و تعرضوا للنفي ومُنِعُوا من جوزاتهم و حرموا من جنسياتهم . و رابع هذه العوامل فني / جمالي : حيث وقفت جِدَّة و حداثة الوسائل المستخدمة في الشعر الحديث ، على مستوى الشكل ، معيقا بينه و بين تمثل مضامينه الثورية من قِبَل الجماهير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق