1)توطين الفصل الثاني
2)أبرزالمضامين الفكرية للفصل الثاني
1.2)تمهيد الفصل الثاني
1.1.2)التطور الجذري العنيف في الشعر الحديث: المنطلقات و الأهداف
2.1.2)جدلية تطور المضمون و الشكل في الشعر العربي الحديث
3)أسباب انتشار معاني الغربة و الضياع في الشعر العربي الحديث
4)محاور الغربة و تجلياتها في الشعر العربي الحديث
1.4)تجربة الغربة و الضياع بين الأصالة و الإسقاط
2.4)خلاصة عامة حول تجربة الغربة و الضياع في الشعر الحديث
5)المسار االمتبع في دراسة الغربة و الضياع بمؤلف ظاهرة الشعر الحديث
6)المناهج النقدية المعتمدة في دراسة تجربة الغربة و الضياع في الشعر العربي الحديث
7)الأساليب الحجاجية و طبيعة اللغة في الفصل الثاني من مؤلف ظاهرة الشعر الحديث
المنجز
1)توطين الفصل الثاني
يقع هذا الفصل من مؤلف ظاهرة الشعر الحديث بعد الفصل الأول الذي تناول فيه الناقد قضية التطور التدريجي في الشعر الحديث . و يدرس أحمد المعداوي في الفصل الثاني حركة الشعرالحديث ، بالتركيز على المضمون الشعري لهذه الحركة لأن تطور المضمون يقتضي تطور الشكل - و من أجل رصد التطور الجذري الذي عرفه الشعر مع هذه الحركة ، اكتفى بدراسة و تحليل تجربة الغربة و الضياع . و هي الدراسة التي شغلت حيزا نصيا يتحدد في خمسين صفحة من المؤلف ( بداية من الصفحة 55 و نهاية بالصفحة 105 ) . فما المضمون الفكري لهذه الدراسة النقدية لتجربة الغربة و الضياع في الشعر الحديث ؟ و ما المسار الذي سلكه الناقد أحمد المعداوي في دراسته ؟ و من أي منظور نقدي نظر إلى هذه التجربة الشعرية ؟ و بم دافع عنها ؟
2)أبرز المضامين الفكرية للفصل الثاني
1.2)تمهيد الفصل الثاني
1.1.2)التطور الجذري - العنيف في الشعر العربي الحديث: المنطلقات و الأهداف
2.1.2)جدلية المضمون و الشكل في تطورالشعر العربي الحديث
بعد وضع الكاتب أحمد المعداوي الحركة الشعرية الحديثة في سياقيها السياسي و السوسيوثقافي ، استنتج أن الثقافة الواسعة و التجربة الخصبة جعلت تجربة الشاعر الحديث تجربة ألم و أمل تجاه الواقع ، فتلونت بلون نكبة 1948، و عبرت عن قلقه صوب واقع الإنسان العربي المنهزم . إن فرادة هذه التجربة الشعرية تطلبت ، حسب المعداوي، تجاوز الأشكال القديمة و البحث عن أشكال جديدة تلائم المضمون الجديد . و بهذا أصبح الشكل شرطا من شروط الإبداع و الرؤيا الحضارية الجديدة ، لأن المضمون ، كما يرى الكاتب ، يبقى مادة تحتاج إلى شكل تنتظم داخله . و هو الأمر الذي دفع الشاعر العربي الحديث للاجتهاد و المحاولة والتجريب من أجل الوصول إلى شكل جديد أساسه الموسيقي هو التفعيلة الواحدة . و في حديثه عن سياق الشكل الجديد يعقب المعداوي على الأراء النقدية التي اعتبرت الشعر الحديث وليد خطأ عروضي ، بتوضيح يرى في هذا الشعر ظاهرة حضارية و ثمرة النكبات التي تصيب المجتمعات و الأمم ، و لا تشكل الموسيقى فيه إلا جزءا من كل . ثم عزز تصوره بحجج من فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع و علم النفس ، إذ يتفق كل من ويليم جيمس ، و أرنولد توينبي ، و جون ديوي على أن الأزمات تؤدي إلى الإبداع والخلق حضاريا و ثقافيا .
و عليه ، إن الشكل الجديد ، من منظور المعداوي ، نتاج النكبة التي قصمت ظهر جيل من الشعراء ، و مازالت مستمرة بأشكال متنوعة ( سياسيا ، اجتماعيا ، و نفسيا ) . و يرى المؤلف ، بعد هذه الخلاصة ، أن مسألة اكتمال الشكل الجديد تجعله مرتبطا بالقديم و متجاوزا ، فرغم أنه بدأ يكتمل و يستقر عند بعض الشعراء الكبار أمثال الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر عبدالوهاب البياتي و الشاعر صلاح عبد الصبور ، إلا أنه مازال أكثر ملاءمة للمضمون الجديد . كما شدد الناقد على العلاقة الوثقى التى تربط المضامين الخصبة المتطورة بالشكل الفني ، إذ لا يمكن الفصل بينهما من حيث القيمة الفنية ، ثم نبه إلى أن موضوع المؤلَّف المحدد في دراسة تطور الشعر الحديث يفرض ، منهجيا، الوقوف على المضمون الذي يبرر التطور على مستوى الشكل.
قسم الكاتب دراسته للمضامين الشعرية إلى تجربتين اثنتين : التجربة الأولى هي تجربة الغربة و الضياع، و التجربة الثانيه هي تجربة الموت و الحياة ، و هذا الفصل بين التجربتين منهجيا لا يمنع من مد الجسور بينهما لتسهيل الحكم على التطور الكلي للشكل و المضمون في الشعر الحديث. و قد ختم أحمد المعداوي تمهيده للفصل الثاني بتوضيح أن البداية بتجربة الغربة والضياع مردها ، أولا ، إلى كونها تجربة قريبة من تصوير دمار الوجود العربي عقب النكبة ، وثانيا أن ما سيأتي بعدها يتراوح بين البعث و اليقظة و بين الفشل و الموت .
3)أسباب انتشار معاني الغربة و الضياع في الشعر العربي الحديث
تعددت الأسباب التي كانت وراء هيمنة معاني الغربة و الضياع و الكآبة و التمزق في الشعر الحديث ، أولها تأثر الشاعر العربي الحديث بقصيدة الأرض الخراب للشاعر توماس إليوت . و ثانيها قراءة الأعمال المسرحية والروائية الوجودية و النقدية لألبير كامو و جان بول سارتر ، بالإضافة إلى كتابات كولن ويلسن المثيرة للضجر والسأم في صفوف الشباب . في حين كان ثالثها الزاد المعرفي للشاعر الذي فجر على لسانه أسئلة مقلقة ، و قاده إلى اتخاذ مواقف صارمة نحو ذاته و مجتمعه و الكون ، ذلك أن إقبال الشاعر الحديث على المعرفة و الثقافة جعل أفكاره المثالية تصطدم بصخرة الواقع و تنقلب إلى يأس و ضجر . ويرفض الناقد أن تكون معرفة الشاعر وثقافته المصدر الوحيد لهيمنة نغمة الكآبة و الضياع ، بل كان للواقع العربي عقب النكبة إسهام كبير في انتشار الكآبة والضياع بالشعر العربي الحديث . و قد استشهد أحمد المعداوي على صحة رأيه بسطرين شعريين من قصيدة الرأس و النهر للشاعر أدونيس ، و بسطرين من قصيدة مذكرات الصوفي بشر الحافي للشاعر صلاح عبد الصبور .فقد جعل واقع النكبة الشاعر الحديث أمام واقع مظلم ( كما في شهادات الشاعرين عبدالوهاب البياتي و أحمد عبد المعطي حجازي ) ، واقع كانت الغلبة فيه لليأس مما دفع الشاعر العربي الحديث إلى الاتجاه بتجربته الشعرية نحو آفاق الضياع و الغربة ، و ذلك بالانتقال من المعاناة إلى الكشف رغبة في تجاوز الكائن نحو الممكن. و لهذا لا ينبغي اعتبار قطع الشاعر الحديث صلته بالواقع كان بدافع سلبي كالمرض أو الانحراف ، و إنما هو سير في طريق مظلم من أجل تفجير الماء من الصخر كما يرى الشاعر أدونيس . إذن أمام واقع منحل و تاريخ ملوث وجد الشاعر العربي الحديث نفسه يعزف نغمة سوداء تليق بواقع أمته .و بعد الإحاطة بالعوامل التي كانت وراء هيمنة نغمة الضياع و الكآبة و التمزق في الشعر الحديث ، انتقل أحمد المعداوي إلى توضيح الهدف من دراسته لتجربة الغربة و الضياع ، فحدده في توكيد أصالة هذه التجربة الشعرية والكشف عن جذورها في تربة الواقع العربي الحديث ، من خلال دراسة مجموعة نصوص شعرية للتمييز بين الغربة المشدودة إلى الواقع ، و بين السأم بما هو إسقاط لتجارب الآخرين على تجربة الشاعر العربي الحديث .كما وقف الكاتب عند مصطلح الغربة وحصره في غربة الشاعر عن واقعه الحضاري بوصفه كلا ، و اعتبر أن ما سيدرسه من محاور جزئية للغربة يأتي من باب إدراك هذه الغربة إدراكا صحيحا .
4)محاور الغربة و تجلياتها في الشعر العربي الحديث
أ) الغربة في الكون
يبرز المؤلف كيف أن الشاعر العربي الحديث وجد نفسه ، أمام واقع النكبة و الذل و المهانة ، منفصلا عن كل القيم فاستقر الشك في ذهنه . و الحال هذا ، اختار بحساسيته الفائقة تجربة الإحساس بالوحدة و التفرد في الكون . ثم سرعان ما تحول هذا الأخير ، بعد زوال النشوة المترتبة على هذه التجربة ، أمام الشاعر إلى متاهة بلا عقل و لا منطق، فأصبح حينها مثقلا بالظلمة والعبث ( كما تبوح بهذا الاحساس تجارب شعراء أمثال صلاح عبد الصبور ، أدونيس ، ويوسف الخال ) . إنه كون تتاخم حدوده حدود الذات و تمتزج بها ، مما دفع الشاعر إلى الرغبة في التغيير و البحث عن صيغة جديدة للوجود ( مثال تجربة الشاعر أدونيس في كتاب التحولات و الهجرة ) . كما إنه كون يزيد من وحدة الشاعر و انتظاره المصير المأساوي ( مثلما تنطق بذلك تجربة الشاعر بدر شاكر السياب ) ، و لا خلاص منه سوى بالموت بوصفه خلاصا صعبا .
ب) الغربة في المدينة
كانت المدينة موضوعا مهيمنا في شعر الشاعر العربي الحديث لأنه وجد فيها مجالا مناسبا لتحقيق هدفه الشعري المتجسد في تفسير العالم و تغييره . إنها الوجه الحضاري و السياسي للأمة . غير أنه بعد غزوها من قبل المدنية الغربية أصبحت بلا أصالة ، و غدت لباسا فضفاضا لا يناسب الواقع المهزوم ، مما جعل إحساس الشاعر نحوها إحساسا بالغربة ، الغربة في المدينة و ما فيها من قيم . فصَوَّرَهَا تارة في ثوبها الرمادي غير الإنساني ( هذا ما تطفح به تجربة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ) ، وتارة أخرى قاسية بدون قلب رحيم نحو الأحياء و الأموات أيضا (تجربة الشاعر بدر شاكر السياب ) . وجعل سكانها قساة يلفهم الصمت ، و يمشون بنظرة جافية و متجاهلة ( تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور .)
ج) الغربة في الحب
لم تعد جرعة الحب كافية لأن تشفي نفسية الشاعر و تحقق له السكينة أمام واقع نفسي و حضاري معقد . لقد فشل في علاقته الجسدية بالمرأة و لم يستطع أن يخرج نفسه من سجنها الخاص : الغربة ، فتحول الحب إلى عداوة قاتلة ( تجربة الشاعر خليل حاوي ) . ذلك أن المرأة برقتها و أنوثتها و جمالها لم تتمكن من تخليص الشاعر من شقائه. كما أنه لم يعد للحب روحيا أي معنى أمام واقع عربي خربته النكبة . و قد أكد أحمد المعداوي أن غربة الشاعر العربي الحديث في الحب لا ترجع إلى الهجر والصدود و الحرمان، مثلما في شعر الحب التقليدي ، و إنما مردها إلى وعي الشاعر بتناقضات واقعه المهزوم.
د) الغربة في الكلمة
عندما ظهر للشاعر أن جهاده بالكلمة لا يتجاوز تصوير واقع بشع ، تحولت على لسانه هذه الكلمة إلى حجر لا قوة لها ولا فعل ( تجربة الشاعر أدونيس) مما دفعه إلى الصمت ، لكنه سيكتشف أن هذا الأخير عذاب و سكون فيطمئن إلى الكلمة بوصفها قدره ( تجربة سفر الفقر و الثورة ) . وتبقى الكلمة رغم كل هذا مستعصية في ثوب أسود ووليدة واقع الغربة، تقف في حلق قائلها فلا تمنحه الموت و إنما ترمي به حجرا في بلاط أمير ( تجربة سفر الفقر و الثورة).
بعد هذا الجرد و التصنيف لمحاور الغربة يستنتج أحمد المعداوي أن تعدد أبعاد غربة الشاعر في الكلمة يعود إلى غربته أمام واقع تحضر فيه حرية التعبير أحيانا و تغيب عنه أحيانا أخرى . و قد وطدت غربته في الكلمة الصلة بين الغربة في الحب والمدينة و الكون لأنها ( أي الكلمة ) موقف لدى الشاعر الحديث . إن غربة الكون و المدينة والحب و الكلمة ، حسب الكاتب ، هي وجه من أوجه غربة الشاعر في واقع ما بعد النكبة ، و تلتقي كلها في محور الموت و اليبوسة و التحجر ، كما أنها تتقاطع في صورة انحباس الأصوات و سيادة الصمت وربط التجربة بالزمن. ويفسر هذا الالتقاء في الأفكار و الصور و الانفعالات ، من منظور المعداوي ، لا بضيق أفق الشاعر العربي الحديث وضعف خياله ، و إنما بوحدة التجربة التي جعلته يجمع أحيانا بين لونين من الغربة في القصيدة الواحدة ، و قدم المؤلف مثال تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدة أغنية للشتاء ، التي جمعت بين الغربة في الكلمة و الغربة في المدينة. و كذا تجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي التي جمعت بين ألوان مختلفة من الغربة في قصيدة فارس النحاس.
ه) ألوان الغربة و تعدد الرموز في قصيدة فارس النحاس للشاعر عبدالوهاب البياتي
حلل المؤلف قصيدة فارس النحاس ، التي تتكون من ثمانية و عشرين سطرا ، و أبرز ألوان الغربة فيها كما يأتي : لقد بدأ الكاتب بتحليل و توضيح الغربة في المكان ، حيث يصور الشاعر الإنسان حاملا غربته معه أينما حل وارتحل . ثم انتقل بعدها إلى الغربة في الزمان بماضيه و مستقبله ، وهي غربة تعقبها في قصيدة فارس النحاس غربة في العجز عن خوض غمار الحياة . وقد رد المؤلف حضور كل هذه الألوان من الغربة في قصيدة الشاعر البياتي إلى كون هذا الأخير يدين واقع الحياة العربية ، ثم يضيف في قصيدته هاته ألوانا أخرى من الغربة ، التي تخص الشاعر / الإنسان المناضل مثل : الغربة في الحياة المتجسدة في عجز الشاعر عن نيل شرف الاستشهاد و الاكتفاء بانتظار الموت في فراشه، و الغربة في الموت حينما يشعر الشاعر أنه ميت لعجزه عن اكتشاف تناقضات واقعه كما فعل الشاعران لوركا و المعري . و يختم قصيدته بالغربة في الصمت أمام عجزه عن نيل شرف الكلمة في الشعر التي تعادل شرف الاستشهاد .
استنتج أحمد المعداوي ، من خلال تحليله قصيدة فارس النحاس و إبرازه ألوان الغربة فيها ، أن تعدد أوجه الغربة في القصيدة و امتزاجها يعبر عن التمزق النفسي و الروحي للإنسان العربي ، كما يكشف عن تخبطه في تلمس سبيل الخلاص . و لم تفت المؤلف الإشارة إلى اغتناء تجربة الشاعر بتعدد في الرموز (لوركا ، المعري مثلا ) ، التى أكدت غربة الشاعر في واقعه الحضاري ( بوصفه كلا).
و) استناد تجربة الغربة إلى الرمز العام في قصيدة الدارة السوداء للشاعر يوسف الخال
تتألف قصيدة يوسف الخال الموسومة ب " الدارة السوداء " من ستة و ثلاثين سطرا . و تقوم غربة الشاعر فيها ، كما يرى المعداوي ، على الرمز العام ، مما دفعه إلى الكشف عن خصوبة تجربة الشاعر و عمقها بالنظر إليها من منظور شمولي خلافا لقصيدة فارس النحاس في تجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي .
إن الدارة السوداء من منظور المعداوي رمز لواقع عربي يسوده الخراب و الموت. لقد جعل هذا الوضع المزري الشاعر يتمنى أمنتين : فكانت أمنيته الأولى أن يدفن هذه الدارة لتنبعث من جديد ، أما أمنيته الثانية فتجلت في أن تنعدم الدارة السوداء من الوجود . غير أنه عجز عن تحقيق الأمنيتين ، وتحول إلى كتلة من الهم و اللعنة و العجز، يعيش وحيدا أعزل إلى أن تجلت له حقيقة الموت ( موت الأباء / الأحياء الذين لا نفع فيهم ، موت مُثُلِهم )، فلجأ في نهاية القصيدة إلى الصلاة أمام عجزه الكلي عن فعل أي شيء صوب واقع حضاري مهزوم .
لقد أعلن الشاعر يوسف الخال في الدارة السوداء، كما يرى المعداوي ، عن غربته في واقع مهزوم ، و تحمل مسؤوليته بلا خداع تجاه هذا الواقع . إنه لمن المستحيل أن يقوم بدوره أمام أمة تعيش على التواكل و الخرافات في عصر العلم . فالشاعر لا يهرب إذن من الواقع و لا يقبل بالذل و المهانة ، مما يجعله وحيدا لأن الواحد لا يمكنه تغيير واقع أمة هذا حالها . و لأن هدفه أكبر من المتوقع أعلن عن حسرته على جهل الوسيلة التي تبعث بها هذه الأمة ، وتحقق بالتالي هدفه . و قد تساءل الناقد مرات عديدة حول المقصود بالصلاة في نهاية الدارة السوداء ، و بعد تقديمه لمجموعة من الافتراضات ، قدم تفسيرا يراه ملائما ، و يتجسد في التعبير عن موقف الشاعر الرافض ، غير أنه موقف الرافض المهزوم .
وهكذا فإن تجربة الغربة لدى الشاعر العربي الحديث بكل أبعادها ذات مدلول واحد : الغربة في الواقع الحضاري المهزوم . و يتمثل غرض معاناة الشاعر الغربة بكل ألوانها في السعي نحو الخلاص الكلي ، إذ وصلت في بعض التجارب الشعرية إلى حد الموت ، و لكنه موت من أجل الحياة ، بدافع أن وراء كل ظلمة إشراقة . و يوضح المؤلف هذا الموقف أكثر بنظره إلى الموت بوصفه الوسيلة الوحيدة المؤدية إلى الحياة حين تنعدم الوسائل الأخرى . ثم يؤكد أن الشعراء وحدهم من أدركوا أن الأمة العربية ماتت سنة 1948 ، مما دفعهم إلى تلوين كل مظاهر الحياة بلون الموت لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتفجير الحياة من صميم ظلمة الموت .
1.4) تجربة الغربة و الضياع بين الأصالة والإسقاط
وضح المعداوي العلاقة الرابطة بين معاني الغربة و الضياع و بين معاني التجدد و اليقظة و البعث ، ثم اكتشف أن تجربة الغربة و الضياع كانت من أجل تفسير الواقع و بالتالي السعي نحو تغييره بتحويل الموت فيه إلى حياة إيمانا من الشاعر العربي الحديث بجدلية الموت و الحياة. ثم عقب على من يتملكهم الخوف على الحركة الشعرية الحديثة من الزوال ، مثلما حصل مع الحركة الشعرية الذاتية قبلها ، بعدما أصبح لمحور التمزق و الضياع و الحزن الغلبة على مجموعات شعرية كاملة ، بتنبيه هؤلاء المتخوفين إلى ضرورة النظر إلى الحركة الشعرية الحديثة نظرة كلية تربط المجموعة الشعرية بالمرحلة التي أثمرتها و تقارن بين الإنتاج السابق للشاعر و إنتاجه اللاحق . و قد دعم رأيه بوصل تجربة الحركة الشعرية بظروفها التاريخية ، حيث بين أن إيقاع البعث و الأمل بلغ أوجه في الفترة التاريخية الممتدة من تأميم القناة إلى الانفصال بين مصر و سوريا ، ليبدأ إيقاع اليأس في الارتفاع بعد حصول الانفصال . و أضاف معقبا أن تفاعل الشاعر مع الإيقاع السائد لا يكون بشكل مطلق ، و مثل لذلك بتجربة الشاعر صلاح عبد الصبور في مقدمة ديوان أحزان الفارس القديم ، إذ يوجد بها شعر يحمل معاني الحزن و التعاسة و المقت . ويقابل هذا الافتخار بالهزيمة، عند الشاعر صلاح عبد الصبور الذي يندرج ضمن إيقاع اليأس ، مسرحية مأساة الحلاج ، ذات البعد السياسي الاجتماعي ، و التي تنتمي إلى إيقاع البعث و اليقظة ، بدعوتها إلى تحويل الخلاص الديني الفردي إلى خلاص جماعي .
بعد توضيحه للبعد الايجابي في تجربة الحركة الشعرية الحديثة ، انتقل الناقد أحمد المعداوي إلى إبراز الجانب السلبي في التجارب الشعرية لدى بعض الشعراء الشباب ، الذين أسقطوا تجارب الآخرين على تجاربهم بفعل التأثر السلبي بالأدب الوجودي ، وما ترتب عن هذا الإسقاط من مواقف سلبية مثل الانصراف عن الفعل ، و السعي إلى ممارسة الضجر و السأم ، و غيرها من الأحاسيس الغريبة عن تربة الواقع العربي . كل هذا جعل من هذه التجارب تجارب عابرة . و يمثل المعداوي لهذه التجارب الإسقاطية بمثالين اثنين ، المثال الأول من تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور في قصيدة " الظل و الصليب "، ضمن ديوان " أقول لكم " ، و المثال الثاني من تجربة الشاعر عبد الباسط الصوفي في بعض قصائده ، ضمن ديوان " أبيات ريفية ".
2.4)خلاصة عامة حول تجربة الغربة و الضياع في الشعر العربي الحديث
ختم المؤلف توضيحه لآراء النقاد حول تجربة الغربة و الضياع في الشعر الحديث بانتقاد رأي المتخوفين على الحركة الشعرية الحديثة من الزوال ، معتبره رأيا ناتجا عن الخلط بين التجربة الشعرية الأصيلة والتجربة غير الأصيلة، ونبه إلى أن خوفهم المفرط نابع من جعل كل ما فيه الحزن و الضياع أمرا مضرا بالشعر . إن هؤلاء ، من منظور المعداوي ، تجاهلوا أن الحياة ليست نزهة خالية من مثل هذه الأحاسيس ، وغفلوا عن أن دور تجربة الغربة و الضياع رهين بدور شاعر هذه التجربة . ذلك الدور الذي تمثل في حمل الشاعر الحديث الهم الجماعي للأمة عكس شعراء الحركة الذاتية . و عليه فإن غربة الشاعر العربي الحديث في هذه التجربة هي غربة من أجل تعرية واقعنا نحن ، وبالتالي إن غربته غربتنا نحن أيضا و ليست له وحده فقط .
5)المسار االمتبع في دراسة الغربة و الضياع بمؤلف ظاهرة الشعر الحديث
تدرج الكاتب أحمد المعداوي في دراسته لتجربة الغربة و الضياع من العام إلى الخاص فالأخص ، ثم استخلص أحكام ونتائج تخص موضوع دراسته في نهاية الفصل الثاني . و هذا ما يتجلى في استهلال المؤلف هذا الفصل بتمهيد يتضمن السياق التاريخي و الاجتماعي _ الثقافي الذي ولدت في حضنه الحركة الشعرية الحديثة ، و انتقل إلى تقديم تعريف لمصطلح الغربة والضياع لدى الشاعر الحديث في علاقته بواقع أمته الحضاري ، و قد استشهد و عزز تعريفه بما يناسب من شهادات الشعراء وتجاربهم الشعرية ، ليتدرج نحو جرد و تصنيف ألوان الغربة لدى الشاعر العربي الحديث، و يصل إلى تطبيق هذا التصنيف على قصيدتين _ نموذجين من الشعر الحديث ، الأولى للشاعر عبدالوهاب البياتي ( فارس النحاس ) ، و الثانية للشاعر يوسف الخال(الدارة السوداء ) . و قد اختبر أحمد المعداوي في دراسته لهذين النموذجين من تجربة الغربة و الضياع منطلقاته النظرية العامة في الخطوتين السابقة، و ذلك بتطبيقه لما ورد فيها من مفاهيم و تنظير أثناء إبرازه تعدد ألوان الغربة عند الشاعرين، تعدد يعكس سيطرة إيقاع اليأس و الضياع على التجربة الشعرية الحديثة أمام واقع عصي عن التغيير . و بالتالي لابد من تفسيره قبل تغييره ، و تفسير الشاعر كان بكلمته التي سلك بها الطريق و الدرب المظلمين ، وبلغت معاناته إلى حد الموت لأنه الوسيلة الوحيدة لإحياء و بعث الأمة من جديد . و بهذه الخلاصة ينهي الكاتب دراسته لتجربة الغربة و الضياع في الشعر الحديث مع تمييزه بين التجربة الأصيلة في تربة الواقع العربي والتجارب الإسقاطية العابرة . وقد دعا المتخوفين على الحركة الشعرية الحديثة من الزوال إلى ضرورة قراءة تجارب شعرائها في سياقها التاريخي بعيدا عن التجزيء و النظرة المثالية ، لأن غربة الشاعر العربي الحديث هي غربتنا مادام قد عبر عن همنا الجماعي في تجربته الشعرية.
6)المناهج النقدية المعتمدة في دراسة تجربة الغربة و الضياع في الشعر العربي الحديث
رغبة من المؤلف في دراسة و تحليل شاملين يحيطان بموضوع تجربة الغربة و الضياع لدى الشاعر الحديث ، تناول موضوعه من جوانب عدة ، أولها الجانب التاريخي ، إذ وضح ملابسات الظروف التاريخيه التي ولدت فيها الحركة الشعرية الحديثة ، وكيف تراوحت تجاربها بين إيقاعي اليأس و الأمل عقب نكبة 1948 . و في هذا التأطير استند الناقد إلى المنهج التاريخي . وثانيها ربط المؤلف ، في تحليله ودراسته لتجربة الغربة و الضياع ، طبيعة المضمون الشعري لتجربة شعراء الحركة الشعرية الحديثة بواقعهم الاجتماعي و السياسي و الحضاري المنكوب . و قد استعان في إبرازه كيفية تأثير الاجتماعي و السياسي في الشعري بالمنهج البنيوي التكويني . في حين يتمثل ثالث الجوانب في تركيز الناقد أحمد المعداوي على الجانب المضموني في دراسته لتجربة الغربة و الضياع ، إيمانا منه أن المضمون يطور الشكل في الشعر ، فاستخدم المنهج الموضوعاتي ، الذي يولي أهمية كبرى في دراسة الأدب لموضوع /ة النص الأدبي . أما الجانب الرابع الذي تناول منه المؤلف موضوعه فهو الجانب النفسي، وقد استند الدارس في إبراز وقع الهزيمة الحضارية على نفسية الشاعر إلى المنهج النفسي ، فاستخدم مفاهيمه / أدواته في تحليل و إبراز طبيعة نفسية الشاعر / الإنسان العربي عقب النكبة .و عليه فالمناهج النقدية بمؤلف ظاهرة الشعر الحديث عموما ، وبهذا الفصل خصوصا طبعها التكامل ، ذلك أن المؤلف أحمد المعداوي لم يتحيز إلى منهج دون المناهج الأخرى ، وإنما جعل المناهج كلها في خدمة دراسته المتمحورة حول موضوع تطور الشعر العربي الحديث .
7)الأساليب الحجاجية و طبيعة اللغة في الفصل الثاني من مؤلف ظاهرة الشعر الحديث
استند الكاتب أحمد المعداوي في تأطير و تحليل تجربة الحركة الحديثة في الشعر إلى المرافعة عن تصوره بما يدعمه من الحجج و الأدلة ، منها ما كان من داخل الحركة الشعرية الحديثة ، كما في شهادات الشعراء بخصوص تجاربهم ، أو في الاستشهاد بعينات و قصائد أحيانا من تجاربهم الشعرية . و من هذه الحجج كذلك الموازي للإبداع الشعري الحديث ، و المتجلي في لجوء المؤلف إلى أراء النقاد في تجربة الغربة و الضياع إما ليعزز بها رأيه ، و إما ليعقب و يرد عليها . و من حججه نجد الحجج التاريخية ، ويتمحور جلها حول الحدث التاريخي الأسود : نكبة1948 . و من أساليب الناقد أحمد المعداوي في توكيد صحة رأيه وصواب تحليله ، حضر أسلوب الخبر / السرد في التمهيد ، وتخلل فقرات الفصل كله ، كما في شهادات الشعراء مثلا . و قد كان استخدام أسلوب التعريف لتوضيح بعض المصطلحات و القضايا ، مثل تعريف الكاتب لمصطلح الغربة ، و ينضاف إلى ما سبق الجرد و التصنيف لألوان الغربة ، والمقارنة بين التجربة الشعرية الأصيلة و التجربة غير الأصيلة. وبالنسبة للغة فصل تجربة الغربة و الضياع فقد تميزت بالجمع بين دقة ووضوح اللغة النقدية من جهة ، و بين الغموض و الإيحاء لما تضمنه هذا الفصل من شهادات و أشعار شعراء الحركة الشعرية الحديثة. وهو الجمع الذي لا ينقص من قيمة الفصل النقدية بادعاء سقوط الناقد في التناقض من حيث اللغة، بقدر ما يعني إلمام الناقد بتجربة الحركة الشعرية و قدرته على تحليلها من الداخل بلغتها بدل الاكتفاء بمسافة الناقد التي تجمد التحليل و الدراسة أحيانا . و هذا الجمع بين اللغتين ليس صعبا على الناقد والشاعر أحمد المعداوي الذي جمع بين الإبداعين : ممارسة النقد وقول الشعر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق