مدون مهتم باللغة العربية و أدبها

الأحد، 4 يوليو 2021

رواية اللص و الكلاب : قراءة توجيهية

 

رواية اللص و الكلاب : قراءة توجيهية 

1) تجربة نجيب محفوظ الروائية : إضاءات
     الرواية العربية تاريخ من لا تاريخ لهم، و هي الفن الذي يروي الواقع دون أن ينقله ، و ذلك بقول ما لا يُسْمَحُ بقوله . إنها فن يُضِيء و يستشرفُ و يمارس ، ضمنا ، النقد دون أن يكون نقدا ، يفلسف الحياة دون أن يكون فلسفة ، و يعيد النظر في التاريخ ، تاريخنا ، دون أن يكون تاريخا.

       من الروائيين الذين أقاموا صرح هذا الفن السردي و طوروه ، في العالم العربي ، كان الكاتب والروائي المصري نجيب محفوظ ( 1911_ 2006 ) ، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في الأدب سنة 1988 عن مجمل أعماله ، مع تنويه خاص برواية أولاد حارتنا . و قد تميز من حيث الكتابة السردية بالغزارة ، إذ كتب خمسا و ثلاثين رواية ، كانت رواية عبث الأقدار أول رواية له سنة 1939 ، أما آخر عمل روائي أنجزه فكان بعنوان قشتمر 1989. زيادة على كتابة الرواية ، كتب نجيب محفوظ القصة و السيناريو . و قد تميز أسلوبه في الكتابة الروائية بالواقعية الكلاسيكية، التي تنصب على تصوير الحياة بأدق التفاصيل( الأحداث و الشخصيات و الأمكنة ) وهذا ما طبع أعماله الروائية الأولى( الثلاثية التاريخية : عبث الأقدار 1939 ، رادوبيس 1943 ، و كفاح طيبة 1944 ، ثم ثلاثية القاهرة : بين القصرين1956، قصر الشوق و السكرية1957) ، ثم بدأ يتدرج نحو الواقعية الجديدة اعتمادا على الحلم ، و الكوابيس و الحوار الداخلي و الرمز ، في رصد مجاهل الذات و المجتمع عبر استنطاق متعدد المنظورات لواقع تداخلت فيه القيم و السلوكيات و المواقف و تراكبت في ثناياه الفئات و الطبقات و الصراعات. و قد قال نجيب محفوظ عن الانتقال من الأسلوب الواقعي التقليدي إلى هذا الأسلوب الذي كتب به رواية اللص و الكلاب _ موضوع دراستنا _ : " كنت في الماضي أهتم بالناس و الأشياء ، و لكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة لي ، و حلت محلها الأفكار و المعاني... أصبحتُ اليوم أهتم بما وراء الواقع ... تستطيع أن تقول إنني في المرحلة الأخيرة أتبع الواقعية الجديدة ، و هذه لا تحتاج إطلاقا لمميزات الواقعية التقليدية التي يقصد بها أن تكون صورة من الحياة .. الواقعية الجديدة تتجاوز التفاصيل و التشخيص الكامل، وهذا ليس تطورا في الأسلوب .. بل تغيرا في المضمون ... في الواقعية الجديدة الباعث على الكتابة أفكار و انفعالات معينة تتجه إلى الواقع وتجعله وسيلة للتعبير عنها " . فما الأفكار و الانفعالات التي يهدف نجيب محفوظ التعبير عنها من خلال رواية اللص و الكلاب ؟ و ما القيم و السلوكيات التي يطفح بها الواقع و يسعى كاتب اللص و الكلاب إلى انتقادها ؟ وتاريخ أية فئة تروي رواية اللص و الكلاب ؟

2) موجز حول رواية اللص و الكلاب

    بعد إنهاء ثلاثية القاهرة سنة 1957 ، توقف نجيب محفوظ عن الكتابة ، و لم يستأنف نشاطه هذا إلا سنة 1961 الذي أثمر عملا روائيا مغايرا لأعماله السابقة ، من حيث الأسلوب والمضمون. رواية كُتِبَت على منوال الواقعية الجديدة ، و ذلك بالاستناد إلى الرمز و الحوار الداخلي و الحلم ، من أجل سبر أغوار الشخصية . و قد سُردت أحداث هذه الرواية في ثمانية عشر فصلا ، و استلهمت من مآسي الواقع المصري ، غير أن الكاتب لم ينقل الواقع ، كما هو ، و إنما قام بتحويله و تحريره فنيا     .

3) دراسة العنوان : من المعنى المرجعي إلى الدلالات الرمزية

اللص و الكلاب مركب عطفي بين طرفيه دلاليا علاقة تضاد . فإذا كان المعطوف عليه (اللص بصيغة المفرد ) يعني الإنسان الذي يسطو على ممتلكات الناس خفية و لا يؤتمن عليها ، فإن المعطوف ( الكلاب بصيغة الجمع ) ، مفرده كلب ، يشير إلى حيوان وفي قابل للترويض على حراسة ممتلكاتنا بمختلف أنواعها من يد كل لص أو سارق . غير أن هذا المعنى المرجعي للعنوان لا يمكن التسليم به مع كتابة روائية تنهج خطة الواقعية الجديدة القائمة على الرمز والحلم ، وهو ما يدفعنا إلى دراسة مؤشرات أخرى قد تكشف لنا عن خطة العنونة التي اتبعها الروائي نجيب محفوظ . إن شكل و لون العنوان يَشِيَان بانزياحه عن المعنى المرجعي نحو دلالات خفية ، ذلك أن اللون الأبيض و الشكل المنزاح عن شكل الخط الطباعي يحيلان على تمويه في العنونة . و هذا ما يؤكده موقع العنوان على غلاف الرواية ، لقد عمد الكاتب إلى قلب المعايير المألوفة في العنونة ، فالمألوف هو أن يكون العنوان في قلب الغلاف أو في أعلاه ،  بينما وضعه نجيب محفوظ في الزاوية السفلى من الغلاف يسارا خرقا لمنطق كتابة و قراءة اللغة العربية ( من اليمين إلى اليسار ). إن كل هذا لم يترك للقارئ أية فرصة في التمسك بالمعنى المرجعي ، بل دفعه دفعا إلى توقع المعنى المضاد . و بالتالي يمكننا الرهان على أن الروائي نجيب محفوظ يتبع خطة التمويه و استراتيجية قلب المعنى في العنوان : أيصدق قولنا إن اللص مع نجيب محفوظ في روايته يصبح وفيا و مؤتمنا على ممتلكات الناس ، في وقت تغدو فيه الكلاب بلا وفاء شيمتها الغدر ؟ جوابا على هذا السؤال ، و ما يتشعب عنه من أسئلة أخرى ، سنبرز الدلالات التي تحملها صورة الغلاف.

4)   دلالة لوحة الغلاف

     غلاف رواية اللص و الكلاب عبارة عن لوحة  تتشكل من رسم ليدين يغطي ذراعيهما كُمَّان يشيران ، من حيث اللون، الأبيض و الأسود ، إلى البدلة الرسمية . و تظهر اليد اليمنى من منظور قريب منبسطة متأهبة للقبض على شيء ما ، بينما تبدو اليد اليسرى من منظور أبعد ممسكة بسلاح ناري و تسدد طلقات نارية في اتجاه كلبين يلوح شبحاهما من بعيد ، بلون أسود ، الأول واضح المعالم في وضعية ترقب و لهاث ، و الثاني لا يظهر منه سوى الظهر ، في حين تنتصب من المنظور الأبعد شهادات قبور . و إذا كان اللون الأزرق يحتل أعلى الغلاف على مستوى الخلفية ، فإن الألوان المتضاربة إلى حد التنافر تتموقع تحت اليد اليمنى و تمتد إلى أسفل اللوحة ( الأسود و الأبيض والأخضر الفاتح ) . كما تقع العين على امرأة بشعر أشقر و لباس صيفي أحمر يدل على الانفتاح والتحرر ، يظهر أنها مرتعبة و خائفة تراقب بنظرة حذرة متوجسة ، تحمل في يمناها حقيبة يد نسوية، و في يسراها علبة هدايا ذات لون أبيض مربوطة بأشرطة صفراء ، و خلفها يظهر مشهد بناية عالية متعددة النوافذ بطلاء أبيض .

     و بعد هذا المسح البصري لمكونات لوحة الغلاف ، لابد من إبراز ما تشير إليه من دلالات قد تعيننا على فك شفرة العنوان . لنبدأ بالعلاقة الجامعة بين أطراف الغلاف ، أعلى /أسفل ، ويمين / يسار ، نلاحظ على مستوى اللون : حضور الأزرق في الأعلى ( لون الأمل و التطلع ) ،  في حين تجتمع في الأسفل  الألوان الآتية  : الأبيض ( رمز الوفاء والتفاؤل )، و الأسود (رمز التشاؤم والخيانة ، و الأحمر ( رمز الحياة و الثورة ) . و هو الامتزاج الذي يوحي بأن الرواية ستكون ميدان صراع بين شخصيات تنتصر لقيم الوفاء و التطلع و الحياة و الثورة ، و بين أخرى تركن إلى قيم الخيانة و الموت . فهل يكفينا  هذا للقول إنه صراع رمزي بين قيم الثورة و الثورة المضادة في المجتمع المصري بعد ثورة 1952 بتسع سنوات استنادا إلى تاريخ كتابة الرواية ؟ أما إذا نظرنا إلى لوحة الغلاف من اليمين إلى اليسار فسنعثر على ما يؤشر على هذا و يبرز دلالة العنوان . فإذا كان لليمين دلالة اليمن و البركة و القداسة في الثقافة العربية الاسلامية ، كما له دلالة المحافظة على الوضع السياسي القائم و تلميعه حتى يبدو أفضل من الممكن في الثقافة السياسية ، مقابل اليسار الذي له دلالة معكوسة ثقافيا و سياسيا ، فإن منطق تشكيل لوحة الغلاف يقلب هذه المعادلة ، و يجعل رمز الموت  في اليمين ، الجهة التي تمتد منها اليد حاملة السلاح ، و تحتها مباشرة يوجد رمز الانفتاح و التحرر و الثورة ( الشابة ذات الشعر الأشقر و الزي الأحمر) ، بينما نلاحظ في يسار الغلاف و جود رموز الوفاء و الترويض ( الكلاب ) و الطهر و القداسة ( اللون الأبيض ، لون العنوان ) . و عليه فإن المفتاح الأخير الذي يدعم افتراضنا أن عنوان الرواية مؤسس على القلب الدلالي ، يتجلى في وجود الكلاب بجنب الأموات ( رمز شهادات القبور ) مقابل وجود يد بزي رسمي تطلق الرصاص ، كل هذا يدل على أن الصراع يدور حول قلب القيم ، الكلاب لم يعد موضعها بين الأحياء ، و هو ما يدل على أنها أصبحت رمزا مضادا للوفاء في رواية نجيب محفوظ ، بينما صار اللص الخارج عن القانون يحمل السلاح رسميا . و عليه فاللص أصبح ، مع الروائي، وفيا ، في حين غدت الكلاب غدارة غير مؤتمنة على ممتلكات الناس . و ما يعزز استنتاجنا حول استراتيجية القلب الدلالي في العنوان هو اندراج رواية اللص و الكلاب ضمن الرواية الواقعية الجديدة النقدية التي تجعل من السخرية آلية فنية و جمالية في تعرية الواقع و الكشف عن عيوبه من أجل تحريره فنيا . إذن من يكون اللص الذي جعله الروائي رمز الوفاء ، و ما الكلاب التي ترمز إلى الخيانة في روايتنا ؟ بعد استيفاء تتبع دلالات العتبات في بناء افتراض مناسب لقراءة المؤلف الروائي ، نستعين ببعض المؤشرات الداخلية لاستكمال هذا البناء .
 

5)   دراسة بعض المؤشرات الداخلية

     ساهم التشكيل البصري منذ بداية الرواية في ترسيخ معاني السرد باللص و الكلاب   . إن أول ما نجد ، بعد العنوان ، رسما باللون الأسود يمثل شخصا يختفي وسط الحشائش بيده اليسرى مسدس ، و هو في وضعية توحي أنه يترقب نزول من بالسيارة ليفرغ فيه مسدسه . و يستهل الفصل الأول بوصف حال سجين غادر لتوه السجن ، ينظر إلى محيطه نظرة مغايرة قبل أن يسجن . و عن طريق التداعي يبرز السارد ما في باطن الشخصية سعيد مهران اللص ، الذي كان ضحية خيانة تلميذه و زوجته نبوية و يكشف عن نوايا الانتقام منهما ، إذ لم يعد أي أثر للتفاؤل بداخله سوى قبس صغيرته سناء ، الذي مازال مشتعلا و يدفعه إلى التوجه نحو مسكنه .  ثم في نهاية الفصل الرابع ينضم إلى لائحة من قرر سعيد مهران الانتقام منهم صديق الجامعة و أستاذ النضال رؤوف علوان الذي تخلى عن كل مبادئ الثورة، و تناسى الماضي المشترك بينه و بين سعيد اللص .  و بهذا تتضح معالم العنوان فاللص هو / سعيد / و الكلاب هي / الخونة ( الزوجة و التلميذ و الأستاذ في النضال .)

6)   فرضية مناسبة لقراءة رواية اللص و الكلاب

   استنادا إلى كل المعطيات السابقة ، بداية من تجربة نجيب محفوظ الروائية ، مرورا بموقع رواية اللص و الكلاب ضمن هذه التجربة ، و وصولا إلى العتبات و المؤشرات الداخلية ، نفترض أن المؤلف نجيب محفوظ في رواية اللص و الكلاب يتبع أسلوب الواقعية النقدية في السرد باعتماد رمز الكلاب دلالة على قيم أصحاب الثورة المضادة ، بعد ثورة 1952، و رمز اللص دلالة على قيم الثورة التي سرقت أحلامها من المجتمع المصري ، و ذلك بجعل الأحداث تنمو و تتطور بناء على الصراع الذي ينشب بين سعيد اللص و بين الكلاب ، صراع وقوده الرغبة في الانتقام و استرجاع قيم الثورة المسروقة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بطاقات لغوية/ بطاقة الاستفهام

 بطاقات لغوية/بطاقة الاستفهام