من الروائيين الذين أقاموا صرح هذا الفن السردي و طوروه ، في العالم العربي ، كان الكاتب والروائي المصري نجيب محفوظ ( 1911_ 2006 ) ، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في الأدب سنة 1988 عن مجمل أعماله ، مع تنويه خاص برواية أولاد حارتنا . و قد تميز من حيث الكتابة السردية بالغزارة ، إذ كتب خمسا و ثلاثين رواية ، كانت رواية عبث الأقدار أول رواية له سنة 1939 ، أما آخر عمل روائي أنجزه فكان بعنوان قشتمر 1989. زيادة على كتابة الرواية ، كتب نجيب محفوظ القصة و السيناريو . و قد تميز أسلوبه في الكتابة الروائية بالواقعية الكلاسيكية، التي تنصب على تصوير الحياة بأدق التفاصيل( الأحداث و الشخصيات و الأمكنة ) وهذا ما طبع أعماله الروائية الأولى( الثلاثية التاريخية : عبث الأقدار 1939 ، رادوبيس 1943 ، و كفاح طيبة 1944 ، ثم ثلاثية القاهرة : بين القصرين1956، قصر الشوق و السكرية1957) ، ثم بدأ يتدرج نحو الواقعية الجديدة اعتمادا على الحلم ، و الكوابيس و الحوار الداخلي و الرمز ، في رصد مجاهل الذات و المجتمع عبر استنطاق متعدد المنظورات لواقع تداخلت فيه القيم و السلوكيات و المواقف و تراكبت في ثناياه الفئات و الطبقات و الصراعات. و قد قال نجيب محفوظ عن الانتقال من الأسلوب الواقعي التقليدي إلى هذا الأسلوب الذي كتب به رواية اللص و الكلاب _ موضوع دراستنا _ : " كنت في الماضي أهتم بالناس و الأشياء ، و لكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة لي ، و حلت محلها الأفكار و المعاني... أصبحتُ اليوم أهتم بما وراء الواقع ... تستطيع أن تقول إنني في المرحلة الأخيرة أتبع الواقعية الجديدة ، و هذه لا تحتاج إطلاقا لمميزات الواقعية التقليدية التي يقصد بها أن تكون صورة من الحياة .. الواقعية الجديدة تتجاوز التفاصيل و التشخيص الكامل، وهذا ليس تطورا في الأسلوب .. بل تغيرا في المضمون ... في الواقعية الجديدة الباعث على الكتابة أفكار و انفعالات معينة تتجه إلى الواقع وتجعله وسيلة للتعبير عنها " . فما الأفكار و الانفعالات التي يهدف نجيب محفوظ التعبير عنها من خلال رواية اللص و الكلاب ؟ و ما القيم و السلوكيات التي يطفح بها الواقع و يسعى كاتب اللص و الكلاب إلى انتقادها ؟ وتاريخ أية فئة تروي رواية اللص و الكلاب ؟
2) موجز حول رواية اللص و الكلاب
بعد إنهاء ثلاثية القاهرة سنة 1957 ، توقف نجيب محفوظ عن الكتابة ، و لم يستأنف نشاطه هذا إلا سنة 1961 الذي أثمر عملا روائيا مغايرا لأعماله السابقة ، من حيث الأسلوب والمضمون. رواية كُتِبَت على منوال الواقعية الجديدة ، و ذلك بالاستناد إلى الرمز و الحوار الداخلي و الحلم ، من أجل سبر أغوار الشخصية . و قد سُردت أحداث هذه الرواية في ثمانية عشر فصلا ، و استلهمت من مآسي الواقع المصري ، غير أن الكاتب لم ينقل الواقع ، كما هو ، و إنما قام بتحويله و تحريره فنيا .
3) دراسة العنوان : من المعنى المرجعي إلى الدلالات الرمزية
اللص و الكلاب مركب عطفي بين طرفيه دلاليا علاقة تضاد . فإذا كان المعطوف عليه (اللص بصيغة المفرد ) يعني الإنسان الذي يسطو على ممتلكات الناس خفية و لا يؤتمن عليها ، فإن المعطوف ( الكلاب بصيغة الجمع ) ، مفرده كلب ، يشير إلى حيوان وفي قابل للترويض على حراسة ممتلكاتنا بمختلف أنواعها من يد كل لص أو سارق . غير أن هذا المعنى المرجعي للعنوان لا يمكن التسليم به مع كتابة روائية تنهج خطة الواقعية الجديدة القائمة على الرمز والحلم ، وهو ما يدفعنا إلى دراسة مؤشرات أخرى قد تكشف لنا عن خطة العنونة التي اتبعها الروائي نجيب محفوظ . إن شكل و لون العنوان يَشِيَان بانزياحه عن المعنى المرجعي نحو دلالات خفية ، ذلك أن اللون الأبيض و الشكل المنزاح عن شكل الخط الطباعي يحيلان على تمويه في العنونة . و هذا ما يؤكده موقع العنوان على غلاف الرواية ، لقد عمد الكاتب إلى قلب المعايير المألوفة في العنونة ، فالمألوف هو أن يكون العنوان في قلب الغلاف أو في أعلاه ، بينما وضعه نجيب محفوظ في الزاوية السفلى من الغلاف يسارا خرقا لمنطق كتابة و قراءة اللغة العربية ( من اليمين إلى اليسار ). إن كل هذا لم يترك للقارئ أية فرصة في التمسك بالمعنى المرجعي ، بل دفعه دفعا إلى توقع المعنى المضاد . و بالتالي يمكننا الرهان على أن الروائي نجيب محفوظ يتبع خطة التمويه و استراتيجية قلب المعنى في العنوان : أيصدق قولنا إن اللص مع نجيب محفوظ في روايته يصبح وفيا و مؤتمنا على ممتلكات الناس ، في وقت تغدو فيه الكلاب بلا وفاء شيمتها الغدر ؟ جوابا على هذا السؤال ، و ما يتشعب عنه من أسئلة أخرى ، سنبرز الدلالات التي تحملها صورة الغلاف.
4) دلالة لوحة الغلاف
غلاف رواية اللص و الكلاب عبارة عن لوحة تتشكل من رسم ليدين يغطي ذراعيهما كُمَّان يشيران ، من حيث اللون، الأبيض و الأسود ، إلى البدلة الرسمية . و تظهر اليد اليمنى من منظور قريب منبسطة متأهبة للقبض على شيء ما ، بينما تبدو اليد اليسرى من منظور أبعد ممسكة بسلاح ناري و تسدد طلقات نارية في اتجاه كلبين يلوح شبحاهما من بعيد ، بلون أسود ، الأول واضح المعالم في وضعية ترقب و لهاث ، و الثاني لا يظهر منه سوى الظهر ، في حين تنتصب من المنظور الأبعد شهادات قبور . و إذا كان اللون الأزرق يحتل أعلى الغلاف على مستوى الخلفية ، فإن الألوان المتضاربة إلى حد التنافر تتموقع تحت اليد اليمنى و تمتد إلى أسفل اللوحة ( الأسود و الأبيض والأخضر الفاتح ) . كما تقع العين على امرأة بشعر أشقر و لباس صيفي أحمر يدل على الانفتاح والتحرر ، يظهر أنها مرتعبة و خائفة تراقب بنظرة حذرة متوجسة ، تحمل في يمناها حقيبة يد نسوية، و في يسراها علبة هدايا ذات لون أبيض مربوطة بأشرطة صفراء ، و خلفها يظهر مشهد بناية عالية متعددة النوافذ بطلاء أبيض .
5) دراسة بعض المؤشرات الداخلية
ساهم التشكيل البصري منذ بداية الرواية في ترسيخ معاني السرد باللص و الكلاب . إن أول ما نجد ، بعد العنوان ، رسما باللون الأسود يمثل شخصا يختفي وسط الحشائش بيده اليسرى مسدس ، و هو في وضعية توحي أنه يترقب نزول من بالسيارة ليفرغ فيه مسدسه . و يستهل الفصل الأول بوصف حال سجين غادر لتوه السجن ، ينظر إلى محيطه نظرة مغايرة قبل أن يسجن . و عن طريق التداعي يبرز السارد ما في باطن الشخصية سعيد مهران اللص ، الذي كان ضحية خيانة تلميذه و زوجته نبوية و يكشف عن نوايا الانتقام منهما ، إذ لم يعد أي أثر للتفاؤل بداخله سوى قبس صغيرته سناء ، الذي مازال مشتعلا و يدفعه إلى التوجه نحو مسكنه . ثم في نهاية الفصل الرابع ينضم إلى لائحة من قرر سعيد مهران الانتقام منهم صديق الجامعة و أستاذ النضال رؤوف علوان الذي تخلى عن كل مبادئ الثورة، و تناسى الماضي المشترك بينه و بين سعيد اللص . و بهذا تتضح معالم العنوان فاللص هو / سعيد / و الكلاب هي / الخونة ( الزوجة و التلميذ و الأستاذ في النضال .)
6) فرضية مناسبة لقراءة رواية اللص و الكلاب
استنادا إلى كل المعطيات السابقة ، بداية
من تجربة نجيب محفوظ الروائية ، مرورا بموقع رواية اللص و الكلاب ضمن هذه التجربة
، و وصولا إلى العتبات و المؤشرات الداخلية ، نفترض أن المؤلف نجيب محفوظ في رواية
اللص و الكلاب يتبع أسلوب الواقعية النقدية في السرد باعتماد رمز الكلاب دلالة على
قيم أصحاب الثورة المضادة ، بعد ثورة 1952، و رمز اللص دلالة على قيم الثورة التي
سرقت أحلامها من المجتمع المصري ، و ذلك بجعل الأحداث تنمو و تتطور بناء على
الصراع الذي ينشب بين سعيد اللص و بين الكلاب ، صراع وقوده الرغبة في الانتقام و
استرجاع قيم الثورة المسروقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق